باتت معظم دول العالم تتوسع في تأسيس صناديق الثروة السيادية أو ما يطلق عليها (الصناديق السيادية) بهدف حماية الأجيال القادمة وعدم تركها للضياع، وتتحرك الدول نحو هذه الأدوات المالية خوفاً من أن تواجه هذه الأجيال مصيرا مجهولا في حال تبديد ثرواتها، حيث توفر هذه الصناديق سيولة نقدية ضخمة تمكن الدولة في المستقبل من الانفاق على الصحة والتعليم والخدمات العامة والبنية التحتية من طرق وكباري وغيرها.
وهذه الصناديق تكون مملوكة عادة للدول ولأجهزتها الاستثمارية، ويتم تكوينها عبر توجيه فوائض الدول المالية وايراداتها العامة إليها، مثلا يتم حجز جزء من حصيلة صادرات السلع والنفط والخدمات وإيرادات السياحة لصالح الصندوق السيادي، أو يتم توجيه جزء من حصيلة بيع الأراضي وأسهم شركات القطاع العام وأرباح الشركات الحكومية لصندوق الأجيال.
ببساطة هذه الصناديق تعمل للمستقبل ولا تسحب الحكومات أي سيولة منها، بل تقوم بتنمية أصولها عن طريق استثمارها في أدوات مالية مضمونة مثل السندات وأذون الخزانة والودائع أو شبه مضمونة مثل العقارات والأراضي وغيرها.
والصناديق السيادية تختلف عن احتياطيات الدول من النقد الأجنبي والتي تتركز أغراضها في سداد الديون الخارجية وتمويل فاتورة الواردات ودعم استقرار سوق الصرف الأجنبي عبر الحفاظ على العملة المحلية ومواجهة أية مضاربات عليها.
أبرز التجارب هنا صندوق الثروة السيادي في النرويج والذي كشف المركز المالي له اليوم عن تحقيقه أرباحا صافية في عام 2017 تجاوزت قيمتها 131 مليار دولار بنسبة زيادة 13.7%.
وهذه الزيادة تعد قياسية، خاصة ونحن نتحدث عن أرباح صافية تضاف لأموال الصندوق تتجاوز 131 ألف مليون دولار، كما أن الجزء الأكبر من هذه الأرباح يأتي من عوائد الاستثمار في الأوراق المالية كالأسهم وكذا في العقارات، ولم يأت من استثمارات الدخل الثابت كالسندات والتي تفضلها معظم الصناديق العالمية لقلة مخاطرها، وربح الصندوق النرويجي الذي حققه في عام يعادل ميزانيات نصف الدول العربية مجتمعة وقد يزيد.
والصندوق النرويجي، لمن لا يعرفه، هو أكبر صندوق سيادي في العالم يتفوق على صناديق الدول الثماني الصناعية الكبرى وفي مقدمتها صناديق الصين وألمانيا والولايات المتحدة واليابان، وتزيد قيمة أصوله على تريليون دولار (ألف مليار دولار).
والملفت في الصندوق النرويجي أن المسؤولين عن إدارته يراعون المعايير الأخلاقية عند توظيف أمواله واستثماراته، مثلا تحظر الإدارة الاستثمار في شركات صناعة السلاح والتبغ، أو في الشركات التي تنتهك حقوق الإنسان ولا تراعي حقوق العمال، أو في الشركات التي تتسبب أنشطتها في حدوث أضرار فادحة للبيئة أو تلويث لها مثل شركات الفحم.
وبسبب حرص الحكومات على تقوية صناديقها السيادية فتتم مراقبتها من قبل أكبر مسؤول في الدولة، في تركيا مثلا أقال أردوغان قبل شهور قليلة رئيس صندوق الثروة السيادي محمد بستان بسبب تأخره في إطلاق مشروعات استثمارية كبرى وعدم استثمار أموال الصندوق البالغة 40 مليار دولار بشكل جيد.
وفي المنطقة العربية نجد أن أغلب الدول ليس لديها صناديق سيادية، ولا تعمل هذه الدول لصالح الأجيال المقبلة، بل تفشل حتى في توفير الحد الأدني لحياة آدمية للأجيال الحالية والاستثناء هنا بعض دول الخليج التي لديها صناديق ضخمة يتم من خلالها استثمار فوائض النفط والغاز، إضافة لصندوق دولة ليبيا الذي تبددت أمواله في عهد القذافي بسبب الفساد وسوء الإدارة.
وفي مقابل انشغال الصناديق العالمية بإضافة مليارات الدولارات سنويا لأصولها في صورة أرباح نجد أن بعض الحكومات العربية توجه أموال الصناديق السيادية المملوكة لها في أغراض أخرى منها تمويل الثروات المضادة وإفشال ثروات الربيع العربي وضرب الاستقرار في بعض الدول التي تناصبها العداء، وكذا في ملء خزائن الغرب الفارغة بالمال وشراء صفقات السلاح وتخزينها حتى تصدأ، ولذا تتآكل أموال الصناديق العربية يوما بعد يوم.
وفي الوقت الذي يربح فيه الصندوق النرويجي 131 مليار دولار في عام واحد، نجد أن الصناديق السيادية العربية تتراجع أصولها، وقد تتآكل من قبل الجيل الحالي الذي يسيء إدارتها قبل أن يصل منها شيء للأجيال المقبلة.