لا تتوقف روسيا ودول الاتحاد الأوروبي عن استخدام ورقة الغاز الطبيعي كسلاح رادع منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا وفرض الغرب عقوبات قاسية على موسكو، رغم أنّ الأطراف المختلفة تدرك جيداً أنّ اللجوء إلى هذا السلاح سيكون باهظ الكلفة ومدمراً للاقتصادات الأوروبية والاقتصاد الروسي على حد سواء.
وأخيراً بدأت دول أوروبية تعلن تخليها عن الغاز الروسي، بل تعلن أخرى عن صفقات في غضون أسابيع للابتعاد عن مصادر الإمدادات الروسية، فيما ترمي موسكو بين الحين والآخر بأوراق للتهديد والترغيب تذكر من خلالها الأوروبيين بأنه لا يمكنهم بسهولة الاستغناء عن غازها، لتدخل الأطراف المختلفة في ما يشبه الحرب النفسية اقتصادياً، بينما يدرك الجميع أنه لن يكون هناك طرف فائز في هذه المعركة.
وحظي إعلان ليتوانيا، يوم الأحد الماضي، تخليها عن الغاز الروسي كأول دولة من الاتحاد الأوروبي تنهي اعتمادها على الإمدادات الروسية باهتمام واسع في وكالات الأنباء الغربية من دون الإشارة إلى حجم الإمدادات التي تحصل عليها الدولة الصغيرة والتي لا يصل عدد سكانها إلى ثلاثة ملايين نسمة.
فقد قال وزير الطاقة الليتواني داينيوس كرييفيس، إنّ شركات الدولة البلطيقية خفَّضت تدفقات الغاز عبر خطوط الأنابيب الروسية إلى الصفر خلال عطلة نهاية الأسبوع، من دون الحاجة إلى حظر من الحكومة، مضيفاً أنّ الحكومة ستفرض مثل هذا الإجراء إذا لزم الأمر.
وفي العام الماضي، وفرت روسيا نحو 26% من احتياجات ليتوانيا من الغاز بشكل مباشر، وجاءت 12% أخرى من الغاز المخزن في لاتفيا، وفقاً لمشغل خط الأنابيب في ليتوانيا. وبحسب ما قاله كرييفيس، تدرس الدولة خيارات لتوسيع محطة الغاز الطبيعي المسال على بحر البلطيق، وستعتمد على واردات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة والنرويج.
وفي إيطاليا، قال وزير التحول البيئي الإيطالي روبرتو شينغولاني، في مؤتمر عبر الإنترنت، مساء الاثنين، إن من المتوقع أن تبرم بلاده أولى الصفقات للحصول على مزيد من الغاز من موردين آخرين ليحل محل التدفقات من روسيا.
وأضاف شينغولاني: "هناك سلسلة محادثات جارية... خلال الأسابيع القليلة المقبلة سنبرم أول الاتفاقات" مشيراً إلى أنّ بلاده تتوقع الحصول على كمية إضافية من الغاز حجمها 10 مليارات متر مكعب من خطوط أنابيب من الجزائر وليبيا وأذربيجان هذا العام.
وتسعى إيطاليا، التي تحصل على نحو 40% من وارداتها من الغاز من روسيا، جاهدة لإيجاد بدائل وتنويع مزيج إمداداتها بعد غزو موسكو لأوكرانيا، إلى جانب تعزيز طاقة خط الأنابيب من الجنوب، فهي حريصة على زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال من أسواق مثل قطر والولايات المتحدة وموزامبيق.
لكنّ رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، قال الأسبوع الماضي، إنه يمكن استبدال ما بين 30% و40% من الإمدادات الروسية على الفور، غير أن استبدال الباقي سيكون أكثر صعوبة. واستوردت إيطاليا العام الماضي نحو 29 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا.
الاعتماد على الغاز الروسي
وتدرك الاقتصادات الأوروبية الكبرى، وعلى رأسها ألمانيا خطورة التحول عن الغاز الروسي، إذ إنّ الانتقال إلى موردين آخرين أو التوجه نحو المزيد من مصادر الطاقة المتجددة سيكون مكلفًا ومؤلماً، وبشكل عام، وسيعاني الأوروبيون لبضع سنوات على الأقل بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وتراجع النشاط الاقتصادي الناجم عن نقص الإمدادات.
ورغم هذه المخاطر غرد وزير الخارجية الليتواني غابريليوس لاندسبيرجيس على "تويتر"، يوم الأحد، قائلاً: "أصدقائي الأعزاء في الاتحاد الأوروبي، اسحبوا القابس. لا تكونوا متواطئين".
وفي حين تُظهر البيانات الواردة من وكالة الاتحاد الأوروبي لتعاون منظمي شؤون الطاقة أن العديد من الدول الأوروبية تعتمد بشكل حصري على الغاز الروسي، ويبرز في هذا الجانب: جمهورية شمال مقدونيا والبوسنة والهرسك ومولدافيا.
كما أنّ الاعتماد على إمدادات الغاز الروسي، بلغ نسبة تجاوزت الـ 90% بالنسبة لفنلندا ولاتفيا، بينما وصل إلى 89% بالنسبة إلى صربيا. أما بلجيكا فبلغت نسبة تبعيتها للغاز الروسي، 77%، وألمانيا 49%، وإيطاليا 46%، وبولندا 40%، أما فرنسا فوصلت النسبة إلى 24%.
ويتم تسليم معظم الغاز الذي تشتريه أوروبا من روسيا لتزويد مرافقها الكهربائية بالطاقة عبر خطوط الأنابيب، براً أو تحت البحر، بينما الانتقال إلى موردين آخرين سيدفعها إلى التحول إلى الغاز المسال الذي يتكلف أكثر في عمليات نقله أو تحويله من صورته السائلة إلى الغازية، كما أنّ الكثير من الدول لا تحظى بمرافق لإتمام عمليات التحويل التي لا تتمتع بها سوى دول قليلة مثل إسبانيا وإيطاليا وليتوانيا وفرنسا وهي التي تقود دعوات التخلي عن الغاز الروسي.
وقال وزير المال الألماني كريستيان ليندنر، يوم الاثنين، إنّ ألمانيا لا يمكنها الاستغناء عن إمدادات الغاز الروسي "في الوقت الراهن"، وإن العقوبات المفروضة على موسكو في هذا القطاع ستضر الاتحاد الأوروبي أكثر من روسيا.
وأوضح ليندنر في لوكسمبورغ قبل اجتماع مع نظرائه في الاتحاد الأوروبي: "يجب أن نبحث في فرض عقوبات صارمة، لكن في الوقت الراهن، لا يمكن استبدال إمدادات الغاز الروسي" وأن قطعها "سيضرنا أكثر من روسيا".
حرب نفسية
وفي مقابل الحرب النفسية التي تمارسها الدول الأوروبية على روسيا مستخدمة سلاح الاستغناء عن الغاز الذي يعد شريان الحياة لروسيا، تواصل موسكو كذلك حربها النفسية ضد الاقتصادات الأوروبية بوضع اشتراطات مالية للدفع أو التلويح بوقف الإمدادات من جانبها.
فقد قال الكرملين، يوم الأحد، إنّ خطة الرئيس فلاديمير بوتين المتمثلة في تحصيل ثمن الغاز الطبيعي الروسي بالروبل تعد النموذج الأولي، ليشمل صادرات رئيسية أخرى. لكنّ موقع أويل برايس الأميركي، أشار في تقرير له إلى أنّ طلب بوتين، الدفع بالروبل قد يزيد من رغبة الحكومات الأوروبية في التخلص من الغاز الروسي، ما يأتي بنتائج عكسية.
ويواجه الاقتصاد الروسي أخطر أزمة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 بعدما فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات قاسية بسبب غزو بوتين لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي.