صراع مبكر لاستقطاب قمح سورية... خطط للنظام لتفادي أزمة الاستيراد ومناطق المعارضة تسبق بخطوة
بدأ الصراع على القمح في سورية مبكراً، إذ كان يصل إلى ذروته دوماً في موسم الحصاد من كل عام، وسط سباق بين نظام بشار الأسد والمعارضة على استقطاب أكبر كمية من المزارعين، بينما اتجه المتصارعون لتقديم تسهيلات للفلاحين قبل الموسم الجديد، فيما تسبق المعارضة النظام بخطوة.
وبدأت حكومة النظام خطوات مبكرة لتأمين احتياجاتها من القمح في العام المقبل، بعد أن واجهت عجزاً شديداً مع انحسار الكميات المستلمة من المزارعين هذا العام في ظل انهيار الإنتاج، بينما لم تسعفها أوضاع السوق الدولية، بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الإمدادات والأسعار، فضلاً عن العجز عن تدبير النقد الأجنبي اللازم للاستيراد.
وأعلنت الحكومة قبل أيام، عن إجراءات تشمل تأمين مستلزمات القطاع الزراعي من بذور وسماد ومحروقات، ومنع استغلال الأراضي المخصصة لزراعة القمح في زراعة أي محصول آخر، إضافة إلى دراسة تبسيط إجراءات منح القروض للقطاع، مشيرة إلى قابلية هذه الإجراءات للتنفيذ.
بينما يرى خبراء اقتصاد ومسؤولون في القطاع الزراعي أن هناك عقبات كبيرة تحول دون زيادة الإنتاج، لا سيما ما يتعلق بتوفير الطاقة والبذور بالأسعار المدعومة، ما يجعل مناطق المعارضة تسبق النظام بخطوة على صعيد الحصاد والاستئثار بالإنتاج الوفير، والتحكّم بالمعروض في الأسواق، ليبدو القمح سلاحاً فاعلاً في الصراع الذي يدخل عامه الثالث عشر في البلاد.
شعارات وتوصيات
يقول المسؤول السابق في وزارة التخطيط، منذر الشعراني، إن خطط النظام لزيادة إنتاج القمح مجرد "كلام عام"، لأن اجتماعات الحكومة قبل الموسم السابق، كانت تدور في السياق نفسه، ورفعت الشعارات والتوصيات نفسها، ولكن ما حصل على الأرض هو تراجع غير مسبوق.
ويضيف الشعراني، خلال اتصال مع "العربي الجديد"، أن غلاء مستلزمات الإنتاج، من بذور وأسمدة ومازوت، تسبب في تراجع الإنتاج في الموسم السابق، ليكون الأسوأ تقريباً في تاريخ سورية، إذ لم يزد الإنتاج كاملاً عن مليون طن وليس 1.7 مليون طن، كما تقول حكومة النظام.
ويشير إلى أن حصة النظام من الإنتاج المسلم من المزارعين لم تصل لأكثر من 400 ألف طن، لأن الكمية الكبرى كانت من حصة ما يسمى الإدارة الذاتية التي تسيطر على مناطق الإنتاج في مدن شمال شرق سورية.
ويلفت إلى أن التخطيط الذي تعلنه الحكومة، يقتصر على طرح المساحات وبنهاية الموسم تحديد سعر القمح، بينما لا تلتزم بمنح الأسمدة والبذور بالسعر المدعوم، ولا تؤمن احتياجات الفلاح من المازوت، لذا تأتي النتائج "كارثية"، وتستمر الحكومة في السعي لإيجاد بدائل من الخارج.
وكانت حكومة بشار الأسد قد عرضت خطة زراعة الموسم المقبل بالقمح، محددة المساحات المروية بنحو 1.36 مليون هكتار، وإجمالي المساحات البعلية (المعتمدة على الأمطار) بنحو 4.39 ملايين هكتار، وذلك وفق ما أسمته الموازنة المائية.
وقدرت الخطة مساحة زراعة محصول القمح لموسم عام 2023 بنحو 1.51 مليون هكتار، منها 872.4 ألف هكتار تعتمد على مياه الأمطار و647.4 ألف هكتار مروية، ومساحة الشعير بنحو 1.1 مليون هكتار، والذرة الصفراء 84.9 ألف هكتار (الهكتار يعادل 10 آلاف متر مربع).
يقول المزارع يحيى خطاب من ريف مدينة حماة التي يسيطر عليها النظام، إن الفلاحين يتعرضون لضغوط وخسائر متتالية نتيجة الحصار الذي يواجهونه من جميع الأطراف، فضلاً عن إجبارهم من قبل الحكومة على تسليم المحصول وإلا تعرضوا للسجن، بينما يواجهون تكاليف مرتفعة للإنتاج، فالحكومة رفعت أسعار البذور والأسمدة، كما تبقى أسعار المحروقات العامل الأكبر بزيادة التكاليف، في ظل عدم كفاية الكميات المدعومة بالسعر المنخفض.
ويضيف خطاب لـ"العربي الجديد" أن آلية توزيع المازوت بالسعر المدعوم تجري عبر تقديم طلب من الفلاحين إلى مديريات الزراعة التي في الغالب لا تقبل الطلبات، ما يدفع الفلاح إلى شراء المازوت من السوق السوداء بسعر 6 آلاف ليرة للتر الواحد، بينما سعره المدعوم للفلاحة 500 ليرة فقط، ما يزيد كلفة الحرث والري.
ارتفاع تكاليف الإنتاج
ويتابع: "بدأنا هذه الفترة بحراثة الأرض لزرع القمح، ولكن لم تقدم الحكومة كميات المازوت المدعومة، ربما يقبلون طلباً واحداً خلال الزراعة وطلبين خلال الحصاد"، مضيفاً أنه على صعيد السماد "رفعت حكومة بشار الأسد أخيراً سعر سماد اليوريا من 1.3 إلى 2.4 مليون ليرة للطن، بينما نحتاج لليوريا كثيراً لأن به النتروجين الذي يحتاجه النبات، الأمر الذي سيرفع تكاليف الإنتاج، خاصة أنه لا يجري توفير الاحتياجات من الأسمدة حتى بالسعر الجديد، ما يضطر المزارعين لشرائها من السوق بسعر 4 ملايين ليرة للطن".
بدوره، يقول نضال شاهين، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام للفلاحين في دمشق، إن الاتحاد يحاول بالتعاون مع وزارة الزراعة تأمين مستلزمات الإنتاج، وسدّ احتياجات الجمعيات من أسمدة وكميات المازوت، فالوضع خلال العام الحالي بات صعباً، نظراً للغلاء الذي طال كل السلع والمواد، مضيفاً خلال تصريحات صحافية مؤخراً، أن هناك عجزاً في تأمين مستلزمات الإنتاج، وخاصة الأسمدة للقمح، حيث يوجد في المصارف الزراعية 40 ألف طن سماد فقط لمحصول القمح الاستراتيجي، وهي كميات لا تكفي.
وفي مقابل الصعوبات البالغة التي يواجهها المزارعون في مناطق سيطرة النظام والتي تنعكس سلباً في النهاية على خطط حكومة بشار الأسد لزيادة محصول القمح وتسلمه من الفلاحين، تبدو مناطق المعارضة أكثر أريحية في توفير القمح، لا سيما أنها تستأثر بمناطق تعرف بسلة غذاء سورية شمال البلاد، ما يجعل القمح بجانب الوقود سلاحين فاعلين بحوزتها.
يقول المزارع أحمد عليان، من محافظة دير الزور، إن المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" المعروفة بـ"قسد" هي خزان سورية الغذائي، خاصة محافظة الحسكة التي تنتج من 60% إلى 70% من إنتاج سورية.
مناطق "قسد" لا تشكو من قلة القمح
ويضيف عليان أن "مناطق قسد لا تشكو من قلة القمح حتى مع تراجع الإنتاج فيها بالموسم السابق، بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة، بل تجري مقايضته مع نظام الأسد أحياناً، عبر عملاء ووسطاء مثلما يجري الحال تماماً مع النفط الذي تستحوذ قسد على كميات كبيرة من إنتاجه".
وكانت ما يعرف بـ"الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سورية، قد أعلنت سابقاً عبر صفحتها في "فيسبوك"، أن مخزونها من القمح المخصص للأفران وصل إلى 200 ألف طن، وهو ما يكفي حتى موسم حصاد 2023، ما جعلها تطرح الطحين للأفران بأسعار مدعومة كثيراً.
ووفق الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد والزراعة في "الإدارة الذاتية" سلمان بارودو، فإن "متوسط شراء القمح عن كل طن يكلف الإدارة حوالي 1.1 مليون ليرة سورية، بينما يباع للأفران مطحوناً بـ 60 ألف ليرة".
كما قال الرئيس المشترك لشركة تطوير المجتمع الزراعي التابع لـ"الإدارة الذاتية" مصطفى خليل، خلال تصريح صحافي أخيراً، إن كميات القمح المخزن لدينا، ومع اتخاذ بعض التدابير الأخرى التي من شأنها تأمين الطحين الكافي، ستصل بنا إلى موسم مقبول.
بدوره، يقول مدير مؤسسة الحبوب في مناطق المعارضة، حسان محمد، إن المزارعين في مناطق المعارضة "إدلب وأرياف حلب وحماة" بدأوا فعلياً في زراعة القمح للموسم المقبل، مؤكداً أن مؤسسة إكثار البذار بالحكومة المؤقتة المعارضة، أمنت البذور للفلاحين بسعر 550 دولاراً للطن، رغم أن السعر بالسوق يصل لنحو 800 دولار، وهي بذور مغربّلة ومعقّمة ومحسّنة، وتناسب الزراعة المروية، وكذلك المساحات التي تعتمد على الأمطار.
ويشير محمد لـ"العربي الجديد" إلى أنه لا توجد أزمة في مناطق المعارضة، رغم أن الإنتاج المسلّم لنا في الموسم السابق لم يزد عن 250 ألف طن، لافتاً إلى أن مناطق نظام الأسد تعاني في المقابل من نقص حاد بمادتي القمح والطحين، لأن الحاجة أكثر من مليوني طن سنوياً، ولم يستلم النظام أكثر من 400 ألف طن، بما فيها التي قايض "قسد" عليها.
حملة مبكرة لدعم زراعة القمح
ويعتبر أن الحملة المبكرة من حكومة الأسد لدعم زراعة القمح "نظرية بالغالب"، ولكنها إجبارية لأن "الاستيراد يُعري النظام الذي لا يمتلك النقد الأجنبي، خاصة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا".
وكان وزير الزراعة في حكومة بشار الأسد، حسان قطنا، قد قال إن إنتاج سورية من القمح، للموسم السابق 2022 قد بلغ 1.7 مليون طن، مضيفاً في تصريحات صحافية، مؤخراً، أن الإنتاج جاء أقل من المتوقع، وأن بلاده تحتاج إلى 3.2 ملايين طن.
وتحاول حكومة بشار الأسد استجرار أكبر كمية من إنتاج القمح الداخلي، عبر رفع أسعار المحصول إلى أعلى من سعر المعارضة ومناطق "قسد"، وتسابقت المناطق الخارجة عن سيطرتها، على استلام القمح من الفلاحين لموسم 2022، عبر رفع الأسعار، بعد موسمين سابقين وُصفا بالأسوأ منذ خمسين عاماً.
ففي حين رفعت حكومة الأسد سعر كيلو القمح إلى 1700 ليرة، مع مكافأة 300 ليرة للقمح المسلّم من مناطق المعارضة، عرضت مؤسسة الحبوب في حكومة المعارضة مبلغ 1900 ليرة للكيلوغرام، بما يعادل 475 دولاراً للطن، كما حددت الإدارة الذاتية، شمال شرق سورية، سعر كيلو القمح بـ 2200 ليرة سورية.
كما أبرمت حكومة النظام السوري اتفاقيات مع روسيا لاستيراد القمح، بما يؤمن الحاجة حتى منتصف العام القادم، بحسب وزير التجارة الداخلية عمرو سالم، الذي أشار خلال تصريحات إعلامية مؤخراً، إلى أنه جرى الاتفاق على متابعة تنفيذ العقود المبرمة سابقاً لتوريد الأقماح إلى سورية، وذلك خلال اجتماع مع ممثلين من الشركات الروسية الحكومية.
وفي أحدث تقرير لها، قالت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) إن عوامل تغيّر المناخ وتعثّر الاقتصاد والقضايا الأمنية العالقة تضافرت لتلحق ضرراً بالغاً بإنتاج سورية من الحبوب عام 2022، مما ترك غالبية مزارعيها في مواجهة وضع حرج ومحفوف بالمخاطر.