شكل الارتفاع المستمر لمعدلات التضخم في تركيا خلال الشهور الأخيرة تهديداً مستمراً للإدارة التي وضعته كهدف رئيس يجب تخطيه، خاصة أن الزمن الباقي على الانتخابات ليس بالكثير، وأن الأوضاع العالمية الملتهبة غير مواتية للتهدئة، كذلك إن المعارضة القوية في الداخل تتأهب للقفز على هذه الفرصة التاريخية والإجهاز على الحزب الحاكم الذي يتغنى دائماً بإنجازاته الاقتصادية، ولكنه لم ينجح حتى الآن في لجم التضخم.
ورغم أن مشكلة التضخم ليست جديدة على الأتراك، إلا أن الموجة الحالية استرجعت الذكريات الأليمة حول معدلات التضخم المنفلتة قبل صعود الحزب الحاكم إلى السلطة في عام 2003، حين انخفضت قيمة العملة من 9 ليرات للدولار الواحد إلى 200 ألف بنهاية عام 1999 ثم 613 ألف بنهاية عام 2000، الأمر الذي سبّب موجة تضخم عاتية لم تُمحَ آثارها من عقلية المستهلك حتى الآن.
ورغم الإجراءات الحكومية المتعاقبة لمحاصرة ارتفاع معدلات التضخم، تشهد تركيا تصاعداً محموماً لتلك المعدلات، ووفقاً لأرقام هيئة الإحصاء التركية ارتفع معدل التضخم خلال مارس/آذار الماضي بنسبة 5.46%، ليسجل 61.14% على أساس سنوي، متجاوزاً معدل فبراير الماضي البالغ 54.4% الذي اعتبر أعلى مستوى للتضخم خلال العشرين عاماً الماضية.
وأظهرت بيانات حديثة أن معدل التضخم السنوي قفز إلى نحو 70% في إبريل/نيسان الماضي، وبذلك يكون أعلى مستوى للتضخم في عقدين، مدفوعاً بالحرب الروسية الأوكرانية وصعود أسعار السلع الأولية بعد انهيار الليرة أواخر العام الماضي.
وبشكل عام، وبالإضافة إلى حرب أوكرانيا، تعود الأسباب الرئيسية لاستمرار ارتفاع معدلات التضخم إلى الانخفاض الحاد والمتوالي لقيمة الليرة التي فقدت 44% من قيمتها بنهاية العام الماضي، نتيجة للمحاولات المستمرة للسلطة النقدية بخفض معدلات الفائدة المحلية، تحفيزاً للاستثمار والنشاط الاقتصادي، وهي المحاولات التي تكررت عدة مرات سابقة، ولكنها لم تكلل بالنجاح حتى الآن.
كذلك إن زيادة معدل التضخم في تركيا تعود إلى الارتفاع الكبير في أسعار الأسمدة والمواد الغذائية، وبالأخص الحبوب، جراء اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، بالإضافة إلى الارتفاع الحاد في أسعار المحروقات عالمياً، في أعقاب التعافي العالمي من تداعيات الكوفيد، واستمرار تصاعد الأسعار في أعقاب حرب أوكرانيا. وتسبب ارتفاع أسعار الطاقة في عجز كبير في الميزان التجاري رغم تحقيق أرقام قياسية للصادرات خلال الأشهر الأخيرة، ووفق أرقام هيئة الإحصاء التركية، فقد تجاوزت صادرات شهر مارس الماضي 22.3 مليار دولار، ورغم ذلك ارتفع العجز التجاري بنسبة 76.7% على أساس سنوي إلى 8.24 مليارات دولار، ويرجع ذلك في الأساس إلى ارتفاع تكاليف واردات الطاقة بنسبة 156%.
وأعلن وزير التجارة التركي محمد موش، أن ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً سبّب زيادة في فاتورة استيراد الطاقة بقيمة 16.3 مليار دولار، وهو ما يعادل زيادة سنوية بـ 188%، في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، وهو الأمر الذي أدى إلى تفاقم عجز الميزان التجاري رغم النجاح الكبير في زيادة الصادرات، وهو الأمر الذي أدى أيضاً إلى المزيد من ارتفاع تكاليف الإنتاج، وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم.
وفي إطار سعيها الحثيث لخفض معدلات التضخم، اتخذت الحكومة سلسلة من الإجراءات الهامة، وفي مقدمتها إقرار تخفيضات ضريبية على السلع الأساسية، بالإضافة إلى دعم بعض تكلفة فواتير الكهرباء لتخفيف العبء عن ميزانيات الأسر.
وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أخيراً تخفيض ضريبة القيمة المضافة على منتجات الاحتياجات الأساسية من 18% إلى 8%، وخفض ضريبة القيمة المضافة من 8% إلى 1% على المواد الغذائية الأساسية، مشيراً إلى أنّ من بين المواد المشمولة بهذا الإجراء الفاكهة والخضر والفواكه المجفّفة ومشتقات الحليب والزيوت الغذائية.
والواقع أن كل تلك الإجراءات لم تنجح في تخفيض معدل التضخم الذي من الواضح أن له أسباباً محلية أعمق من تلك الأسباب المتداولة حكومياً، وخير دليل على ذلك اتساع الفجوة المتزايدة بين تضخم أسعار الغذاء العالمي وتضخم أسعار الغذاء في تركيا طبقاً للمؤشر الذي تصدره منظمة الأغدية والزراعة العالمية "الفاو" والذي يقيس التغيّر الشهري في الأسعار الدولية لسلّة من السلع الغذائية الأساسية
ويشير الكثير من الاقتصاديين بأصابع الاتهام إلى السياسات النقدية المتساهلة للبنوك المركزية وبأنها تغذي التضخم وتخفض قيمة العملة المحلية، وهو الأمر الذي يلقي بالمزيد من الأعباء على الشركات التركية المثقلة بالديون الخارجية، كذلك إن آلية الوديعة المحمية التي نجحت في توفير استقرار كبير للعملة المحلية ستدعم الليرة مؤقتاً، ولكن على المدى المتوسط يمكن أن نرى تأثيراً سلبياً بسعر الصرف من خلال الضغوط التضخمية المتصاعدة باستمرار.
رسمياً أعرب أردوغان عن أمله في بدء انخفاض التضخم بعد مايو/ أيار الجاري، وطمأن الشعب، مؤكداً أن حكومته ستتغلب على مشكلة التضخم، وتابع: "هدفنا يتمثل بخفض التضخم. نأمل أن يبدأ انخفاض التضخم بعد مايو عبر خطوات اتخذناها وسنتخذها، وتكون في اتجاه إيجابي أكثر بنهاية العام". وأضاف: "خفضنا التضخم إلى خانة الآحاد من قبل، وسنخفضه مرة أخرى".
لكن المؤشرات الحالية تثير الكثير من الشكوك في إمكانية تحقق هذا الهدف، فقبل أسابيع خفضت وكالة فيتش للتصنيف دين تركيا من "بي بي-" إلى "بي+"، مع آفاق سلبية، مشيرة إلى معدلات التضخم المرتفعة، وارتفع مؤشر أسعار المنتجين إلى 121.82% في مارس الماضي، وهو المؤشر الذي يعكس معدل التضخم الذي يعاني منه رجال الصناعة عند شرائهم للسلع والخدمات، ومن المنطقي أنه عندما يدفع رجال الصناعة المزيد من الأموال للحصول على السلع والخدمات، فإن ذلك يدفع إلى انتقال التكاليف المرتفعة إلى المستهلك. وببساطة، إن ارتفاع مؤشر أسعار المنتجين يعني المزيد من ارتفاع معدل التضخم.
نجحت الإدارة التركية الحالية في تحقيق إنجازات غير مسبوقة للشعب التركي طوال العشرين عاماً الماضية، ولكنها تواجه حالياً بالعديد من الصعوبات والمشاكل الداخلية والخارجية التي أثرت سلباً بمستوي معيشة المواطن. وعلى الرغم من القفزات القياسية للصادرات، إلا أن معدلات التضخم المرتفعة تشكل ضغطاً مستمراً على المواطن، وقد يحتاج الأمر، ولو مرحلياً إلى إعادة النظر في السياسات النقدية الحالية، خاصة أن الإجراءات المطبقة سابقاً لم تنجح إلى حد كبير.
عموماً، سيبقى التضخم المرتفع التحدي الأكبر لتلك الإدارة، وهي التي عودتنا دائماً التغلب على التحديات، والتغلب على الشكوك المثارة حول قدراتها على التعاطي مع المواقف العصيبة.