انتهت أمس، الاثنين، ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعد ثلاثة عقود من دون تعيين خلفٍ أصيلٍ له على وقع الصراع السياسي على صلاحيات حكومة تصريف الأعمال وفي ظلِّ الشغور في سدّة الرئاسة الأولى.
وتبعاً للمادة 25 من قانون النقد والتسليف، وفي ظلّ شغور منصب الحاكم (المحافظ)، فقد تسلّم صلاحيات سلامة نائبه الأول وسيم منصوري (من الطائفة الشيعية حسب العرف اللبناني)، ريثما يتم تعيين حاكم جديد (من الطائفة المارونية)، والذي أعلن، أمس الاثنين، في مؤتمر صحافي، قبوله المهام، بعدما كان قد لوّح إلى جانب النواب الثلاثة للحاكم بالاستقالة، وذلك بعد ضمانات حكومية وتشريعية تلقّوها بتسيير أعمالهم ضمن خطّة نقدية أعدّوها.
ويغادر سلامة "عرش الحاكمية" الذي تربّع عليه منذ عام 1993، وجعله من أطول حكام العالم شغلاً للمنصب، وفي جعبته اتهامات داخلية وخارجية بجملة جرائم مالية، مع تحميل سياساته النقدية مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من انهيار اقتصادي غير مسبوق تاريخياً منذ أواخر عام 2019، علماً أنه لا يزال حتى اللحظة ينفي كلّ التهم الموجهة إليه، ويعتبر أنه تحوّل إلى كبش محرقة، وقد غسلت المنظومة السياسية منذ زمن أيديها منه، مُتمسّكاً أيضاً بأنّ سياساته ساهمت في الاستقرار والنمو الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن الأضواء ستتجه في المرحلة المقبلة إلى منصوري والنواب الثلاثة، وطريقة عمل المجلس المركزي لمصرف لبنان، بيد أن سلامة سيبقى في الواجهة، تبعاً للملاحقات القضائية بحقه، ولا سيما أوروبياً، وفرنسياً، وأمام القضاء اللبناني، الذي يصادر جوازي سفره اللبناني والفرنسي وقد أصدر قرارات بحقه، منها منع سفره، وإلقاء الحجز الاحتياطي على ممتلكاته مع شقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويك.
في السياق، تقول الباحثة في القانون الدولي والجرائم المالية والاقتصادية محاسن مرسل، لـ"العربي الجديد"، إن "حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يخرج اليوم على جثة الدولة وعملتها الوطنية، وعلى أخطر انهيار شهده لبنان منذ الحرب الأهلية (1975 – 1990)، ولكن للأسف لم يلقَ مصير رجال المال في العالم الذين ذاع صيتهم، أمثال تشارلز بونزي وبيرني ميدوف، إذ سيخرج بغطاءٍ أمنيٍّ كبيرٍ، وحماية من قضاءٍ محلّي مستغلاً نظاماً يُكرّس الإفلات من العقاب".
وتلفت مرسل إلى أن سلامة كان يُعتبر مهندس السياسات المالية في مرحلة ما يسمى بالتعافي الاقتصادي بعد الحرب الأهلية، فكان لا بدّ من سياسة تثبيت النقد في لبنان لاستقطاب المستثمرين وإعادة ضخّ الثقة، خصوصاً في فترة بناء نظام مصرفي في البلاد، لكنه على مرّ الحكومات المتتالية والرؤساء المتعاقبين موّل الطبقة السياسية وأركان الحكم، وجنى بدوره الثروات.
وتضيف: وذلك ليس بخدمات مجانية، إذ حصل تبادل مصالح، من خلال خلق سعر وهمي لسعر النقد، واستشراف حلول للطبقة السياسية، مع العلم أن قانون النقد والتسليف، وإذ ينص على اقراض الدولة، بيد أنه يحصر ذلك بحالة الضرورة، فالمواد القانونية واضحة لناحية واجب الحاكم في حماية سلامة النقد والقطاع المصرفي والاقتصاد المحلي.
وتوضح مرسل أن سلامة اخترع حلولاً، ولم يقم فقط بإقراض الدولة من خلال النقد، بل أيضاً بعمليات التبديل من الدولار إلى الليرة، وقد بات ذلك لاحقاً ديناً على الدولة.
كما تشير مرسل إلى أن سلامة عندما نُصّب لإدارة السياسة النقدية في البلاد كان يقول في العلن إنه ينتقد أداء الحكومات المتعاقبة، لكن بالسرّ كان يخترع الحلول عبر شهادات الإيداع التي يصدرها المصرف المركزي حتى يقوم بالاستدانة من خلال أدوات الدين التي استخدمها للمدّ بعمر النظام، من سندات يوروبوند إلى سندات الخزينة وغيرها.
ولفتت إلى أن لبنان تعثر مرات عدة ولا سيما بعد عام 2000 وكان يفترض من وقتها عدم الاستمرار بسياسة تثبيت سعر الصرف وإقراض الدولة، والبدء بحلول إصلاحية جدية، ولو حصل ذلك ما كنا عشنا مرحلة ما بعد عام 2019.
من ناحية ثانية، تقول مرسل إن كل الأموال التي كانت تستخدم من الحاكم والمصارف عبر ما يسمى مخطط بونزي كانت أموال المودعين بفوائد عالية وتسجل أرباحا دفترية، أي بيع أوهام للناس تُسخَّر لتمويل فساد السلطة، عدا عن قيام سياسة إقراض القطاع الخاص، الذي اقتصر على ذاك العقاري، بينما غيّب القطاعين الصناعي والزراعي من القروض.
وتختم مرسل لتتوقف عند إنفاق سلامة في آخر 4 سنوات 20 مليار دولار على ملف الدعم غير الموجَّه، الذي موّل الفساد، من قمح وأدوية ومحروقات، ثم بيع الدولار المدعوم عبر المنصة التي أوجدها، "صيرفة"، وهذه المبالغ التي بدّدها لشراء الوقت والقضاء اللبناني كي لا يدين نفسه.
قال منصوري الذي خلف سلامة، أمس، إن سياسة الدعم التي تصرف 800 مليون دولار شهرياً من احتياطات المصرف المركزي لا يمكن أن تكون سياسة صحيحة
وأشارت إلى أن هذه الإجراءات كانت كفيلة برد حسابات أكثر من مليون مودع، وما كنا شهدنا أسوأ انهيار في تاريخ البلاد.
وفي الناحية الأخرى، قال منصوري الذي خلف سلامة، أمس، إن سياسة الدعم التي تصرف 800 مليون دولار شهرياً من احتياطات المصرف المركزي لا يمكن أن تكون سياسة صحيحة ومستدامة، وكنا جميعاً نستطيع أن نرى أن هذا النوع من الأزمات لا يمكن أن يُحل بسحب أو تبديد احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، بل المحافظة عليها لأنها تشكل الدفاع الأساسي عن قيمة الليرة اللبنانية.
وتطرّق منصوري إلى خطة المجلس المركزي لمصرف لبنان في المرحلة المقبلة والتي تتطلب تعاوناً من قبل الحكومة والمجلس النيابي، الذي من خلاله يمكن رسم سياسة جديدة، "إذ لا قدرة على التغيير من دون خطة متكاملة"، داعياً الطبقة السياسية إلى إخراج كل ما يتعلق بالسياسة النقدية من التجاذبات السياسية.
وأشار منصوري إلى أنّ المسألة ليست نقدية، والحل ليس في المصرف المركزي، بل بالسياسة المالية للحكومة ويقتضي اتخاذ قرار تفعيل عمل الادارة العامة أي تحسين الجباية، وبدأت الحكومة خطواتها بهذا الإطار، إذ إنّ إمكاناتها بالتحصيل أصبحت بحدود 20 تريليون ليرة شهرياً.
ومع انتقال الصلاحيات إليه، قال منصوري إنه لن "يتم توقيع أي صرف لتمويل الحكومة إطلاقاً خارج قناعاتي والإطار القانوني المناسب لذلك".