سعر الفائدة المنخفض يشعل التضخم العالمي

06 ديسمبر 2021
غلاء الأسعار يضرب حياة الأسر في بيروت (getty)
+ الخط -

ضربت موجات ارتفاع الأسعار أرجاء العالم، وشكلت تحديات كبرى تواجه شعوب الدول النامية ومن بينها العربية التي ترزح أغلبيتها حول خط الفقر، خاصة بعد الزيادات القياسية في أسعار السلع الغذائية الرئيسية والتي هددت بسقوط مئات الملايين من الأفراد تحت خط الفقر، تزامناً مع تغيرات مناخية حادة وحالات من الجفاف، وعودة لبروز مشاهد المجاعات التي اختفت تقريبا خلال العقدين الماضيين.

وحذر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة من أن ملايين البشر قد يعانون من نقص غذائي بسبب ارتفاع أسعار الغذاء، وأن 270 مليون نسمة حول العالم مهددون بالجوع في العام الحالي، وأن الأمر ربما يأخذ منحنى أكثر حدة في العام القادم، لا سيما في ظل وجود الثلاثية المدمرة التي تدفع المزيد من البشر إلى الجوع والبؤس والتي تتمثل في الصراعات والمناخ وفيروس كورونا، وانضم إليها مؤخراً ارتفاع الاسعار.

وتشير النظرة السريعة لأزمة ارتفاع الأسعار حول العالم بأصابع الاتهام إلى أزمات سلاسل الإمداد والتوريد، والتي تفاقمت في أعقاب تداعيات فيروس كورونا، خاصة بعد معاناة جميع مراحل السلسلة من الاختناقات الحادة، بداية من شح الحاويات الكافية وبروز ما أطلق عليه حرب الحاويات، ومروراً بعدم كفاية أعداد السفن لتلبية الاحتياجات المتزايدة لنقل البضائع، وعدم قدرة البنية التحتية في الموانئ للتجاوب مع الزيادات القياسية في حركة النقل، وأخيرا أزمة عدم كفاية عدد سائقي الشاحنات في العديد من دول العالم.

ويشير العديد من التحليلات إلى أن السبب الرئيس لأزمة التضخم هو السياسات النقدية وتلال الأموال التي ضختها دول العالم المتقدم في شرايينها الاقتصادية في أعقاب أزمة كورونا، والتي أضافت قدرات شرائية كبيرة للشركات والأفراد، وهو ما أدى إلى تكدس المدخرات، مع تواصل حالة الغلق العام ومنع النشاطات التي يمكن خلالها إنفاق هذه الأموال.

وظهر أثر ذلك مباشرة في تزايد معدلات الادخار في معظم الدول الأوروبية بنسب تفوق كثيرا معدلات ما قبل أزمة كورونا، حيث ارتفعت المبالغ التي يتم ادخارها في الاتحاد الأوروبي بنسبة 25% خلال فترة الوباء، بينما ارتفعت 30% في الولايات المتحدة.

وتسببت حزم الإنعاش المالي المبالغ فيها سواء للأسر أو للشركات بموجات طلب كبيرة، دلل عليها قفزات غير مسبوقة في الأرقام القياسية لمبيعات التجزئة في الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، وتعاظم تأثير تزايد الطلب على التضخم في ظل انخفاض معدلات الإنتاج بسبب الإغلاقات الطويلة، وهو ما يثبت أن التضخم سببه الرئيس عدم التناسب بين حجم الأموال المتاحة وكميات السلع المعروضة.

من الواضح أن هناك إصراراً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الإبقاء على معدلات الإنفاق المرتفعة من خلال انتهاج سياسة معدلات الفائدة المنخفضة.

وبدا ذلك جلياً من خلال رفض كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي رفع أسعار الفائدة رغم التضخم الذي تشهده أوروبا، وتصريحها بأن الزيادة ضررها أكبر من نفعها، وهو ذات النهج الذي انتهجه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي ثبت مؤخراً سعر الفائدة عند حدود الصفر تقريبا.

وبرر الفيدرالي التثبيت بأنه يرى أن التضخم العالمي المرتفع حالياً، تشكل كنتيجة لعوامل مؤقتة، كما أكد أن الاقتصاد الأميركي سيتأقلم مع اختلالات العرض والطلب وأن التضخم سينحسر، مشيرا إلى أنه مع انحسار إصابات "كوفيد- 19"، من المنتظر أن يرتفع النمو الاقتصادي في الربع الأخير من العام الجاري.

وحذت بعض البنوك المركزية حول العالم وفي مقدمتها المركزي الياباني حذو الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي، إذ لجأت إلى خفض الفائدة إلى مستويات تاريخية متدنية، وبعضها نزل بالفائدة إلى ما دون الصفر، كما لجأت إلى أدوات أخرى لضخ السيولة، تفاوت حجمها من بلد إلى آخر بحسب قوة الاقتصاد والإمكانات المالية المتاحة، وكان ذلك بهدف تشجيع الاستهلاك وتمكين الشركات من الاستمرار بالعمل والحفاظ على الوظائف.

عموما تشير الصورة العريضة الحالية لتصرفات البنوك المركزية حول العالم إلى تفضيل سعر الفائدة المنخفض الأمر الذي يعني بوضوح تفضيل بقاء القوى الشرائية المرتفعة وتجاهل نقص العرض بأسبابه المختلفة، مما سيؤدي إلى المزيد من تأجيج حمي التضخم والذي بات من الواضح استمراره على الأقل خلال النصف الأول من العام القادم، لا سيما في ظل عودة دراماتيكية لتزايد أعداد الإصابات بفيروس كورونا في الدول المتقدمة، بعد تعثر عمليات الفرض القانوني للتلقيح حتى الآن كنتيجة لضغوط شعبية متزايدة.

هل العالم مقبل علي أزمة اقتصادية، سؤال مهم فقد أثارت موجات التضخم المتنامي الكثير من القلق حول مستقبل الاقتصاد العالمي خلال العامين القادمين، وهو الأمر الذي حذر منه العديد من الاقتصاديين حول العالم، باعتبار أن التضخم يأكل الفوائض المالية ويهدد مستويات الاستثمار، وأن اللعب بورقة الفائدة المنخفضة مخاطرة غير مأمونة قد تدفع للركود العالمي.

وهو نفس التوجه لتقرير صدر مؤخراً عن مصرف "دويتشه بنك" الألماني أطلق من خلاله تحذيرات من حدوث أزمة اقتصادية عالمية قريباً أو في عام 2023 بسبب الآثار السلبية المحتملة للتضخم، محذراً من خطط عدم تشديد السياسات النقدية ومواصلة السياسات التحفيزية، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في ركود ضخم، وانطلاق سلسلة من الضوائق المالية في أنحاء العالم، لا سيما الأسواق الناشئة.

عموما ورغم اختلاف وجهات النظر حول تفسير الأوضاع الاقتصادية العالمية، فإننا نشهد وبوضوح تنامياً متسارعاً للفقاعة التضخمية، وتغافلاً عن حالة التوجس داخل أسواق المال ومجتمعات الاستثمار، وتهويناً من مخاطر معدلات الفائدة المنخفضة، والتي تسببت في الابتعاد المستمر عن نقاط التوازن بين العرض والطلب العالميين، وكلها أمور تهدد بحالة ركود محتمل وبقوة، ولن تكون المشكلة حينئذ تطور الركود ودخول الاقتصاد العالمي إلى نفق الكساد المظلم، بل ستكمن المشكلة الكبرى في نجاعة الإجراءات النقدية وقدرتها على امتصاص السيولة الزائدة وترشيد الإنفاق، والحفاظ على مستويات الإنتاج والنمو.

وللأسف فان الدول النامية ومن بينها الدول العربية متضررة في كل الأحوال، فاستمرار الوضع الحالي بسياساته التيسيرية سيؤجج معدلات التضخم التي تلتهم القوى الشرائية لأناس ينفقون ما يزيد عن ثلثي دخلهم على الغذاء.

كما أن رفع أسعار الفائدة إن حدث، فسيكون متأخراً وسيتسبب في انكماش الاقتصادات المتقدمة وبالتالي النامية، وهو ما سيدفع الإنسان الفقير ضريبته كاملة في كل الأحوال.

المساهمون