سر تحسن الليرة التركية

09 فبراير 2021
أسباب عديدة وراء ارتفاع سعر العملة التركية (فرانس برس)
+ الخط -

التحسن الذي تشهده الليرة التركية على مدار الشهرين الماضيين، لافت للنظر، ومثير لتساؤلات الكثيرين المعنيين بالشأن التركي، سواء لأفراد الجاليات العربية وغير العربية المقيمين في تركيا، ويتحصلون على دخولهم بالدولار عبر التحويلات التي تأتيهم من الخارج، أو أولئك المستثمرين الذي يتعاملون مع تركيا، سواء كانوا مستوردين أو مستثمرين داخل البلاد. 

الجميع يعيد حساباته، ما بين الربح والخسارة، فمن باعوا الدولار قبل نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، واشتروا عقارات أو ذهبا، يتجهزون للبيع الآن ليجنوا أرباح ما قاموا به من استثمار، وهناك من يعضون الأصابع من الغيظ، لأنهم احتفظوا بمدخراتهم بالدولار، وهم يشهدون تراجعه أمام الليرة، ويحسبون ما مُنوا به من خسائر نتيجة احتفاظهم بالعملة الأميركية حتى الآن. 

في ديسمبر/ كانون الأول 2020، كان متوسط سعر الدولار بحدود 7.40 ليرات، إلا أن سعر الدولار يوم 5 فبراير/ شباط 2021، بلغ نحو 7.09 ليرات، وثمة توقعات بأن تشهد الليرة المزيد من التحسن خلال الفترة القادمة، حتى أن البعض يتوقع أن يستمر تحسن الليرة أمام الدولار حتى تصل إلى 6.5 ليرات للدولار، بنهاية النصف الأول من 2021. 

 

حالة إرباك 

على الرغم من أن تحسن الليرة أمام الدولار وغيره من العملات الصعبة، يعكس حالة من الإيجابية تجاه الاقتصاد التركي، إلا أن حالة التذبذب الحاصلة في سعر صرف الليرة، أوجدت حالة من الحيرة لدى المتعاملين في الشأن الاقتصادي، سواء من المحليين أو الأجانب. 

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

فإن المستوردين للسلع التركية، بلا شك، سوف يعيدون حساباتهم في التعامل مع السوق التركي، ومقارنته بغيره من الأسواق بعد تحسن قيمة الليرة بنسبة تقترب من 5% خلال يناير/ كانون الثاني وأوائل فبراير 2021، كما أن الدائنين الذين أقرضوا غيرهم بالدولار أو بعملات صعبة أخرى، سوف تنالهم خسائر فروق سعر الصرف، وهو ما سيجعلهم يبحثون عن وسائل أخرى أكثر أمانًا من الاتجار أو الإقراض بسعر فائدة على العملات الأجنبية. 

ولسان حال المتعاملين في السوق التركي، سواء كانوا منتجين أو مستهلكين، أو مستوردين أو مصدرين، يتمنون أن تستقر الليرة التركية أمام العملات الأجنبية الأخرى، سواء كانت قيمتها مرتفعة أو منخفضة، فالسوق يبحث عن الاستقرار، حتى يتمكن المتعاملون الرئيسيون فيه بمن التمتع بنوع من الثقة في الأجلين القصير والمتوسط.. وحتى يخرج هؤلاء المتعاملون مع السوق التركي من دوامة تذبذب سعر الصرف، لجأوا إلى تثبيت تعاملاتهم وفق حسابات الدولار، خاصة أولئك الذين يتعاملون في الأجل القصير أو المتوسط. 

 

الأسباب الاقتصادية 

كان لقرار البنك المركزي رفع سعر الفائدة في الفترة القصيرة الماضية، من 10.5% إلى 17%، أثر ملحوظ في تحسن سعر الليرة، فنسبة فائدة 17% على الودائع المحلية تكفي بلا شك لأن يتجه كثير من المدخرين، إلى تحويل ودائعهم من الدولار أو الذهب أو العملات الأجنبية الأخرى إلى الليرة للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع، وهو ما ساعد على الحد من المضاربات على الدولار، من أجل الدولرة. 

ومما يدلل على تراجع الدولرة في السوق التركية، في ظل رفع الفائدة بالمصارف على المدخرات بالعملة المحلية، ما نشره البنك المركزي التركي عن تحسن أوضاع احتياطي النقد الأجنبي الذي تم استنزافه بشكل كبير خلال عام 2020.. فقد بلغ الاحتياطي في ديسمبر 2020 نحو 93.3 مليار دولار، بزيادة 15.8% عن نوفمبر 2020، كما ارتفع الاحتياطي بنهاية يناير 2021 إلى 95.6 مليار دولار، وبنسبة زيادة 2.4%. وفي ظل استمرار تحسن سعر صرف الليرة أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، يتوقع أن يشهد الاحتياطي المزيد من الارتفاع. 

كما أن حالة التفاؤل التي أعلن عنها من قبل صندوق النقد الدولي، حول زيادة معدل النمو الاقتصادي بتركيا، والمنتظر تحقيقه في 2021، لتصل إلى 6%، بعثت بحالة من الثقة لدى المتعاملين مع الاقتصاد التركي، خاصة بعد توقعات بعض وكالات التصنيف الائتماني بتحسب باقي مؤشرات الاقتصاد التركي في العام الجاري، مثل التضخم الذي يتوقع له أن يهبط من 14.7% خلال يناير 2021 إلى 10.5% خلال باقي شهور العام. 

 

الأسباب السياسية 

مما ساعد على تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى في نهاية 2020، دخول تركيا في العديد من الملفات السياسية الشائكة، ووجود دور قوي لها في إدارة هذه الملفات، مثل الوضع في ليبيا، وشرق المتوسط، وتوتر الأوضاع السياسية مع مصر، بسبب الدور التركي في ليبيا، مما دفع مصر للتصعيد في أزمة غاز شرق المتوسط. 

إلا أن الملاحظ، أن تركيا اتجهت إلى تهدئة العديد من الملفات السياسية الخارجية، وكذلك ملفاتها السياسية مع دول الجوار وعلى رأسها اليونان، فالحرب بين تركيا واليونان كانت قاب قوسين أو أدنى، وكذلك كان الحال في التصعيد المصري التركي في ليبيا، إلا أن تركيا لجأت إلى الأدوات السياسية والدبلوماسية لإدارة هذه الملفات، ونزع فتيل التصعيد لتلك النزاعات. 

كما أن العلاقات التركية الأميركية، كانت في حالة ترقب بعد رحيل دونالد ترامب، والبعض توقع أن تصطدم إدارة بايدن بالحكومة التركية وتوجهاتها في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن بيان البيت الأبيض بعد اتصالات المتحدث بأسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن ومستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، أكد على رغبة البلدين بوجود علاقات بناءة، وتوسيع قاعدة التعاون، وإدارة ملف الخلافات بشكل فعال، وهو ما انعكس بشكل إيجابي على أداء الليرة، وأوجد حالة من الثقة، وإزالة المخاوف التي كان يتوقعها البعض للتصعيد السلبي بين البلدين.  

أيضًا الوضع السياسي الداخلي يصُب في صالح حزب العدالة والتنمية الحاكم، بسبب ما تشهده أحزاب المعارضة من انشقاقات واضحة، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، الذي يعد أكبر أحزاب المعارضة، وهو ما رسخ مزيدا من الثقة في الحزب الحاكم، ورفع شعبيته بنسبة كبيرة داخل المجتمع، ثم إن أردوغان صرح مؤخرًا بضرورة إجراء تعديلات دستورية، وهو ما يصادف رغبة محلية وأحزابا كبرى. 

 

عنق الزجاجة 

مازالت أدوات الاقتصاد النقدي تلم بعنق الاقتصاد التركي، على الرغم من تمتعه بقاعدة إنتاجية قوية، فكل من سعري الصرف والفائدة واحتياطي النقد الأجنبي، تتحكم بشكل كبير في أداء الاقتصاد، بل وتعمل على إضعاف قاعدته الإنتاجية، ويتطلب الأمر أن يتجاوز الاقتصاد هذه العقبات، فبالنسبة لسعر الصرف، ينبغي للاقتصاد، تحقيق عوائد دولارية بشكل كبير ليصل الاحتياطي الأجنبي لنسبة أكبر من 25% من الناتج المحلي. 

كذلك مطلوب تفعيل استراتيجية التخلص من التبعية للدولار، والاتجاه بشكل كبير نحو التبادل بالعملات المحلية، ولا بد من تقليل الاعتماد على آلية سعر الفائدة في إدارة الاقتصاد، وتوسيع قاعدة المشاركة في التمويل في الأجلين القصير والمتوسط، على أن يتم التخلص من آلية سعر الفائدة كقاعدة في الأجل الطويل. 

وإذا ما نجحت تركيا في تحقيق تلك الثلاثية، فسيكون بإمكانها في ذلك الوقت الوصول بشكل كبير إلى حالة من الاستقرار الاقتصادي الممتد، والخروج من عنق الزجاجة، فهذه السياسة سوف تحقق الاستقرار الاقتصادي، الذي يقضي على مخاوف التداعيات السلبية لأدوات السياسة النقدية، والتي تتأثر بشكل كبير بالتداعيات الخارجية، أو المخاوف والممارسات المحلية.

المساهمون