جذبت شركة Last Energy العاملة في تطوير المفاعلات النووية، ومقرها واشنطن، الأنظار، بإعلانها عن توقيع اتفاقيات في المملكة المتحدة وبولندا، قبل أيام، لإنشاء 34 مفاعلاً صغيراً لإنتاج الكهرباء بقيمة 18.9 مليار دولار. إذ بدا الإعلان بمثابة تدشين لحقبة جديدة من نشر المحطات الصغيرة في القارة المتعطشة إلى الطاقة، وكحل سريع لتأمين الإمدادات، لاسيما بعد النقص الذي شهدته الدول الأوروبية في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا وفرض عقوبات على منابع الطاقة الروسية.
والمفاعلات المتفق على إنشائها من بين أصغر تصاميم المفاعلات حتى الآن، حيث تنتج 20 ميغاوات فقط من الكهرباء، ويقدّر وقت إنشائها بـ30 شهراً فقط، وفق تقرير لموقع أويل برايس الأميركي المتخصص في الطاقة، مساء السبت الماضي. ومن المقرر إنشاء 24 مفاعلا في المملكة المتحدة و10 مفاعلات في بولندا.
ويأتي تدشين المفاعلات الصغيرة في وقت يتزايد فيه الجدل أوروبياً حول إنشاء المزيد من المحطات التقليدية الكبيرة الأكثر حاجة للوقت والمال. فالجيل الجديد من المحطات النووية سيتطلب استثماراً بقيمة 500 مليار يورو بحلول عام 2050، وفق المفوضية الأوروبية.
وحسب تقرير حديث لشركة الأبحاث العالمية "وود ماكنزي"، فإن التقنيات المبتكرة للطاقة النووية تساعد على خفض التكاليف، لجعلها أكثر تنافسية مع مصادر الطاقة منخفضة الكربون الأخرى، وهو ما جعل العديد من الدول تتجه مؤخراً إلى تعديل سياسات الطاقة الخاصة بها لدعم المشروعات النووية الجديدة.
وبجانب الحماسة الأوروبية لزيادة الاعتماد على الطاقة النووية، شهد العام الماضي 2022 ارتفاعاً في سياسات دعم الطاقة النووية، إذ واصلت العديد من الدول، ومنها الولايات المتحدة والهند واليابان والصين، توسيع قدراتها النووية ودعمها، حيث حصلت مشروعات الطاقة النووية في أميركا على 6 مليارات دولار من الدعم العام، عبر قانون خفض التضخم الأميركي.
وتشير "وود ماكنزي" إلى أن العالم بحاجة لزيادة الاستثمارات في تقنيات الطاقة النووية التقليدية والجديدة، لافتة إلى أن 75% من القدرة النووية أنشئت خلال الفترة من 1970 إلى 1990، ويقع معظمها في الولايات المتحدة وأوروبا.
ويلفت التقرير إلى أن الاستثمار في تقنيات الطاقة النووية المتقدمة، مثل المفاعلات الصغيرة وغيرها من الابتكارات الجديدة، يمكن أن يخفض التكاليف، ويعمل على تقليل الوقت اللازم للتسويق التجاري، ما يجعلها مصدراً منافساً للطاقة المتجددة.
ومن المتوقع انخفاض تكاليف المفاعلات النووية الصغيرة بحلول عام 2030 لتصبح قادرة على المنافسة مع المحطات الحرارية، قبل أن تواصل الهبوط بحلول 2050، وفق التقرير.
ارتهان أوروبي إلى روسيا
ويبدو أن خطوات أوروبا لتعزيز الطاقة النووية لن تمر من دون عراقيل في ظل الصراع مع روسيا، فقد تواجه الدول، التي تعتمد على روسيا في توفير اليورانيوم، تحديات إضافية. وبحسب بيانات جمعها معهد "رويال سيرفيسز إنستيتيوت" في المملكة المتحدة، ارتفعت صادرات روسيا النووية منذ غزو أوكرانيا، ما أدى إلى زيادة إيرادات الكرملين ودعم نفوذ روسيا.
وكشفت البيانات، التي أوردتها وكالة بلومبيرغ الأميركية أخيراً، أن مبيعات الوقود النووي والتكنولوجيا الروسية للخارج زادت بما يفوق 20% خلال 2022. وقفزت مشتريات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى أعلى مستوياتها منذ 3 أعوام. ويزدهر نشاط هذا القطاع بداية من مصر وإيران وصولاً إلى الصين والهند.
وهذه التجارة تدر أموالاً كثيرة فعلاً، حيث تقدم شركة "روساتوم" الروسية خُمس اليورانيوم المخصب تقريباً الذي يحتاجه 92 مفاعلاً في الولايات المتحدة نفسها.
وفي أوروبا، تعتمد مرافق توليد الكهرباء لـ100 مليون شخص على الشركة الروسية. وحتى في أوكرانيا، ما زال هناك 9 مفاعلات نووية تسيطر عليها كييف، تعول في تشغيلها على الوقود الروسي المختزن.
وفي مقابل استحواذ "روساتوم" على سوق الطاقة النووية في العالم المثير للجدل، تخطط أغلب الدول الأوروبية لإنهاء اعتمادها على روسيا في جميع قطاعات الطاقة، بداية من النفط والغاز وحتى الطاقة النووية. بينما تتميز الشركة الروسية العملاقة عن غيرها من المنافسين في الولايات المتحدة والصين وأوروبا، بانخراطها في جميع مراحل مشروعات الطاقة النووية، بداية من استخراج اليورانيوم وتخصيبه، وصولا إلى تصنيع الوقود النووي والتخلص من نفاياته.
كما يمتد نشاطها إلى تصنيع المفاعلات النووية وتركيبها وتشغيلها وصيانتها على مستوى 54 دولة حول العالم، من خلال 330 شركة تابعة وعدد ضخم من المهندسين والفنيين والعمال، وفق تقارير متخصصة. وشيدت الشركة 10 مفاعلات نووية خلال المدة من 2007 إلى 2017، كما استحوذت على 23 طلباً لشراء خدماتها النووية المختلفة، من أصل 31 طلباً معروضاً عالمياً، بالإضافة إلى استحواذها على نصف وحدات المفاعلات النووية تحت الإنشاء في جميع أنحاء العالم.
وتوفر روساتوم الوقود النووي للمفاعلات، وتتحكم في 38% من تحويل اليورانيوم عالمياً، و46% من قدرات تخصيبه، بالإضافة إلى التخلص من النفايات. ومنحت هذه القدرات روسيا نفوذا كبيرا في سوق الطاقة النووية عالمياً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لتصبح المورد الأساسي في 50% من الاتفاقيات الدولية المتعلقة ببناء محطات الطاقة النووية أو المفاعلات أو إمدادات الوقود أو التخلص من النفايات خلال الـ15 عاماً الممتدة بين 2000 و2015.
ولم تتأثر الشركة الروسية كثيرا بالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو منذ الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ نهاية فبراير/شباط 2022، باستثناء مشروع محطة نووية واحدة علّقتها فنلندا التزماً بالعقوبات الأوروبية.
وانخفضت محفظة مشروعات الشركة الروسية حول العالم بعد هذا التعليق، من 35 إلى 34 مشروعاً، مع الإشارة إلى أن فنلندا لم تلغ المشروع نهائيا، وإنما علقته إلى أجل غير مسمى.
وتشعر أوروبا والولايات المتحدة بشكل خاص بقلق بالغ من زيادة نفوذ روسيا في سوق الطاقة النووية حول العالم. ويخشى المنافسون استعمال موسكو قدراتها في توريد الخدمات النووية وتشغيلها ووقفها، في تحجيم قدرات بعض الدول في زيادة الاعتماد على الطاقة النووية.
في الأثناء، تتصاعد ضغوط بعض الدول في أوروبا من أجل زيادة الاعتماد على الطاقة النووية، على رأسها فرنسا، التي طالبت نهاية فبراير/شباط الماضي، بالاعتراف بالقطاع النووي كقوة أساسية يمكن أن تساعد القارة العجوز، ليس فقط في توفير إمدادات الطاقة وإنما أيضا في منافستها كقوة اقتصادية مع الولايات المتحدة والصين.
وتعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتشييد 6 مفاعلات جديدة على الأقل في بلاده بقيمة 50 مليار يورو، على أن تدخل الخدمة بداية من عام 2035. كما دعا ماكرون، بنك الاستثمار الأوروبي، إلى توفير التمويل لـ"كل التكنولوجيات المتاحة منخفضة الكربون، بما فيها تكنولوجيا الطاقة النووية".
وتقوم فرنسا، التي تحصل على غالبية الكهرباء الخاصة بها من مفاعلات نووية، بدور قيادي على صعيد جهود الاعتراف بالكهرباء المُولدة باستخدام الطاقة النووية كقوة لإنجاز الأهداف المناخية.
ونهاية فبراير/شباط، اجتمعت وزيرة انتقال الطاقة الفرنسية، أغنيس بانييه روناتشر، في استوكهولم، بعشرات من نظرائها الأوروبيين الذين يشاطرونها التفكير ذاته، سعياً لممارسة الضغوط من أجل الاعتراف بالكهرباء المولدة من الطاقة النووية عن طريق إصدار تشريع كأداة لخفض الانبعاثات الكربونية بالتكتل الموحد.
ودعت الدول في بيان مشترك عقب الاجتماع إلى التعاون أكثر بين قطاعاتها النووية، وأكدت أن الكهرباء المنتجة اعتمادا على الطاقة النووية مهمة على صعيدي الحد من الانبعاثات وتعزيز أمن الطاقة.