نتيجة علوّ الأصوات المنادية بضرورة رفع الأجور وموجة الغلاء التي ضربت الأسواق الجزائرية، تمخَّض بيان اجتماع مجلس الوزراء يوم 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 عن قرار بتخفيض الضريبة على الدخل الإجمالي التي تراوح نسبتها من صفر إلى 35 بالمائة، ورفع النقطة الاستدلالية في الوظيفة العمومية في إطار التدابير التي تضمَّنها مشروع قانون المالية لسنة 2022، الأمر الذي يؤدِّي إلى زيادة أجور العاملين في القطاع العام.
لم يتمّ تحديد مقدار التخفيض في الضريبة على الدخل، ولا مقدار الزيادة في النقطة الاستدلالية التي تبلغ قيمتها الحالية 45 دينار جزائري (0.33 دولار) وفقاً للمرسوم الرئاسي رقم 07-304 المؤرخ في 29 سبتمبر/ أيلول سنة 2007، والذي يحدِّد الشبكة الاستدلالية لمرتَّبات الموظَّفين ونظام دفع رواتبهم.
وبالرغم من هذه الإجراءات التي تستهدف تحسين أجور موظَّفي القطاع الحكومي، لا يزال مكوِّنها الرئيسي الغموض الذي يكتنف مصدر الموارد المالية التي ستتولَّى تغطية تلك الزيادات، خصوصاً بالنظر إلى الوضعية الاقتصادية للجزائر ومعاناتها من عجز في الموازنة من المُتوقَّع أن يُلامس عتبة الـ 25 مليار دولار، هذا علاوة على تراجع إيرادات الضرائب المباشرة بسبب تخفيض الضريبة على الدخل.
وتزداد دائرة الغموض واللبس عندما تُؤكِّد الحكومة مراراً وتكراراً على عدم تجاوز الخطوط الحمراء من خلال استحالة العودة إلى طباعة الأموال التي لا تزال رخصتها القانونية سارية المفعول إلى غاية 2022، واستبعاد اللّجوء إلى الاستدانة الخارجية من صندوق النقد الدولي.
من الناحية النظرية، تعتبر زيادة أجور العاملين في القطاع العام من خلال رفع النقطة الاستدلالية التي تؤثِّر بشكل مباشر على الأجر القاعدي خطوة أفضل مقارنة بالمساس بالمنح التي تتغيَّر بفعل عوامل معينة كالمنطقة الجغرافية والزمن، حيث يتمّ حساب الأجر في الجزائر باللّجوء إلى جدول مُحدَّد في المرسوم الرئاسي رقم 07-304 ويُمثِّل الشبكة الاستدلالية لأجور الموظَّفين بغية تحديد الأرقام الاستدلالية لكل من الصنف الذي يعكس المستوى الدراسي للموظَّف، وكذلك الدرجة التي تعكس أقدمية الموظَّف وخبرته في منصبه، وبعد ذلك يُضرَب مجموع الأرقام الاستدلالية للصنف والدرجة في النقطة الاستدلالية التي تسمح بتَحوُّل تلك الأرقام المجرَّدة إلى مبلغ بالدينار الجزائري يعكس بدوره أجر الموظَّف في القطاع العام، وهذا دون احتساب العلاوات، التعويضات، الضريبة على الدخل والاشتراك في الضمان الاجتماعي، لذلك تعتبر النقطة الاستدلالية سبباً رئيسياً في تدنِّي الأجور وتراجع القدرة الشرائية، وهي حقيقة تغيب للأسف عن كثير من الموظَّفين.
وفقاً لإحصائيات وزارة المالية الجزائرية، يُقدَّر عدد موظَّفي قطاعات التربية، الصحة، العدالة، المالية، التضامن الوطني وغيرها بنحو 2.338 مليون عامل، وتُقدَّر فاتورة أجورهم بنحو 3188 مليار دينار جزائري (23.3 مليار دولار) أي 60 بالمائة من ميزانية التسيير التي تمثِّل بدورها قرابة الـ 65 بالمائة من ميزانية الدولة.
سينعكس تخفيض الضريبة على الدخل إيجاباً على أجور ما يزيد عن 1.7 مليون عامل في المؤسسات الاقتصادية العمومية، التي تعمل بنظام أجور خاص ومختلف عن شبكة الأجور الخاصة بالوظيف العمومي، وكذلك على أزيد من 7 ملايين عامل في القطاع الخاص.
وستعمل زيادة الأجور من جهة على زيادة الاستهلاك وارتفاع الطلب، ولكنها ستُؤدِّي من جهة أخرى إلى دوَّامة لا نهائية من التضخُّم في ظلّ زيادة الأسعار وغياب الرقابة على الأسواق.
من الناحية الاقتصادية، فإن زيادة الأجور بدون إنتاجية والبحث عن موارد جديدة ما هي إلّا سكب للزيت على نار التضخُّم، ليتأجَّج بعد ذلك ثالوث العجز الموازني والبطالة والفقر.
يبدو أنّ ادخال تحسينات على أجور موظَّفي القطاع العام بالجزائر دون إيجاد حلّ فعليّ وعمليّ لمشكلة التضخُّم التي سرطنت الاقتصاد الجزائري ينمّ عن افتقار السياسات الاقتصادية للكفاءة التي تحول دون سقوط أعباء جديدة على الموازنة وشرائح محدودي ومتوسِّطي الدخل والفئات الهشّة.
سيكتشف المواطنون أنّ تلك الزيادة في مداخيلهم " إيراداتهم" ما هي إلّا وهم نقدي Money Illusion، وسيدركون أنّهم يعيشون حالة من الخداع النقدي الذي يعطيهم أماناً زائفاً بينما يقضي على كل ثرواتهم وينخر استقرار اقتصادهم.
ولكون المال قوام الأعمال، يتعيَّن على مُصمِّم هذه السياسات الاقتصادية أن يُصرِّح عن كيفية توفير الأموال اللازمة لتغطية الزيادة المرتقبة في أجور موظَّفي القطاع العام، فهو يضغط من ناحية على إيرادات الميزانية العامة من خلال تخفيض الضريبة على الدخل، ويعلم تماماً بأنّ إيرادات الضريبة على أرباح الشركات لا ترقى إلى المستوى المطلوب نظراً لانعكاس الركود الاقتصادي على تلك الشركات، كما أنّه يزيد من ناحية أخرى من أعباء الميزانية ويثقل نفقاتها من خلال رفع أجور القطاع الحكومي.
السؤال هنا: هل يُعوِّل صانع هذه السياسات على الاستدانة الداخلية التي لم تؤتي أكلها سابقاً؟، حيث تُعدّ تجربة القرض السندي مثالاً بارزاً عن عدم فعالية اللّجوء إلى الاستدانة الداخلية في تجاوز الوعكة الاقتصادية لعدّة أسباب منها فقدان الثقة بين المواطن والحكومة وفتاوى مشايخ دين بتحريم نسب الفائدة المترتِّبة عن القرض السندي؛ أم هل اعتمد مُخطِّط هذه السياسات على الجباية البترولية التي قد تتحسَّن بشكل مؤقَّت نتيجة الارتفاع الظرفي لأسعار النفط والغاز؟
يُؤكِّد هذا الاحتمال الاستمرار في الانسياق وراء سياسة الريع وعدم الاستفادة من دروس الماضي القريب وعدم الاعتبار من التاريخ.
من المحتمل أيضاً أن تكون سياسات رفع الأجور مبنية على تحصيل المزيد من الإيرادات من خلال الضريبة على الثروة بالنسبة للأملاك (كالعقارات) والأموال والتي حُدِّدت نسبتها سابقاً بـ 15 بالمائة من الثروة التي تراوح قيمتها ما بين 100 و150 مليون دينار جزائري (ما بين 730 ألف دولار و1.1 مليون دولار)، والتي تتماشى طردياً مع قيمة الثورة المملوكة؛ علما أنّ هذا النمط من التحصيل الضريبي واجه عراقيل بالجملة منها عدم وجود بيانات مالية دقيقة عن الأثرياء المعنيِّين، غياب ملف عقاري يُحدِّد مالكي العقار والقيمة المالية لعقاراتهم، وتخلُّف الجزائر عن قطار الرقمنة.
خلاصة القول، لن تُجدي السياسات الترقيعية نفعاً خاصة في ظلّ موجة غلاء الأسعار الفاحشة التي تجتاح البلاد، وضعف الانتاج الزراعي والصناعي، ونفور المستثمرين الأجانب، ووجود بيئة أعمال طاردة للاستثمار، وترهُّل النظام المصرفي، وتفشِّي عفن الفساد في معظم مؤسسات الدولة.