دولرة لبنان: إغراق رسمي لليرة المتهالكة

02 فبراير 2023
سعر الدولار يقفز رسمياً مقابل الليرة بنحو 10 أضعاف (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -

دخل سعر الصرف الرسمي الجديد في لبنان (15 ألف ليرة) حيّز التنفيذ أمس الأربعاء في خطوةٍ رسمية أولى نحو توحيد أسعار الصرف، تنهي مرحلة تثبيت الصرف على 1507 ليرات، وذلك يعني انخفاضاً بما يقارب التسعين في المائة عن سعر العملة الوطنية القائم منذ حوالي الخمسة والعشرين عاماً.
وأعلن حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة في أكثر من تصريحٍ، أن المصرف سيتبنى سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار الواحد اعتباراً من الأول من فبراير/شباط 2023، وسيكون لديه سعران فقط، هما 15 ألفاً، وسعر آخر يرتبط بمنصة صيرفة التابعة له والذي يستقرّ اليوم عند 38 ألف ليرة.

مسار انهيار الليرة
بدأ مسار انهيار الليرة اللبنانية منذ أواخر عام 2019، بحيث فقدت أكثر من تسعين في المائة من قيمتها حتى اليوم، وذلك في وقتٍ يواصل سعر صرف الدولار تسجيل أرقام مرتفعة جداً تتخطّى الستّين ألف ليرة.
وعلى الرغم من أن البنك المركزي استمرّ في تبنّي سعر الصرف على 1507 ليرات، طوال هذه الفترة، بيد أنه كان بحكم غير الموجود، بفعل تعدد أسعار الصرف، منها التي خلقها الحاكم رياض سلامة، للمصارف والمودعين والمؤسسات، إلى جانب سعر السوق السوداء الذي بات المتحكّم الأكبر على السّاحة، لا سيما بعد انتهاء مرحلة رفع الدعم، ليصبح المرجع الأول لتحديد الأسعار والتداولات، ويطاول مختلف القطاعات، بما في ذلك الاستشفائية، الدوائية، الغذائية، السياحية، وعلى مستوى المحروقات وكافة السلع والبضائع.

الدولرة الشاملة لجميع القطاعات
وتبعاً لذلك، يتوقع خبراء اقتصاد ألا يكون لتغيير سعر الصرف أي تأثير ملموس، ومباشر، باعتبار أن أكثرية التداولات تتم وفق سعر الصرف في السوق السوداء. وفي وقت دخل لبنان مرحلة الدولرة الشاملة، قررت وزارة الاقتصاد الانضمام إليها أخيراً، بالسماح للسوبرماركت بتسعير السلع بالدولار وبيعها بحسب سعر صرف السوق، كما سبقتها إلى ذلك وزارة السياحة التي عممت على المؤسسات السياحية التسعير بالدولار.

كذلك، باتت معظم الخدمات مسعّرة بالدولار وتدفع إما نقداً أو بالليرة وفق سعر الصرف بالسوق السوداء بما في ذلك الصحية، الدوائية، الاستشفائية، الأمر الذي وضع صحة المواطنين في لبنان بدائرة الخطر وترجم بتراجع نسبة الإشغال في المستشفيات، وانخفاض الطلب على الدواء، في حين أن بعض الوزارات بدأت تعتمد التعريفات المتصلة بها على سعر منصة صيرفة وهو اليوم 38 ألفا، منها الطاقة والمياه والاتصالات.

وأصبح الدولار هو اللاعب الأساسي في لبنان، وعمليات الشراء والبيع، أو الإيجارات، ما يجعل تغيير سعر الصرف غير ذي تأثير أيضاً، فعلى سبيل المثال، إن معظم العقارات تحدد بالدولار ويُشترط شراؤها بالدولار نقداً، وكذلك الإيجارات فإن معظم المالكين باتوا يفرضون على المستأجر دفع بدلات الإيجار بالدولار النقدي، علماً أنه بحسب قانون النقد والتسليف لا يحق لهم عدم قبول العملة اللبنانية، ما يجعل حق السكن محصورا بالميسورين، وحملة الدولارات، خصوصاً في ظل غياب السياسة الإسكانية الشاملة.

وفي هذا السياق، تقول الخبيرة في الاقتصادات المدولرة ليال منصور، لـ"العربي الجديد": "لطالما تحدثنا عن الدولرة الشاملة التي أتت متأخرة بعد ثلاث سنوات، باعتبار أننا كنا نعلم مسبقاً بالوضع الذي سنصل إليه، ولا سيما على صعيد انهيار الليرة اللبنانية".
وتشير منصور: "نحن أمام مشهد فقدان السيطرة على سعر الصرف، وبهذه الحالة لا يمكن التعويل على الليرة لاستعمالها كعملة أساسية للتسعير، من هنا، فإن إجراء التعامل بالدولار مفيدٌ بحالة لبنان، الأمر الذي لا ينطبق مثلاً مع حالة مصر، إذ إن الأخيرة تعيش أزمة، لكن عملتها لم تمت، بعكس لبنان، وهنا الفرق بين الموت والمرض".

وتلفت منصور إلى أنه "لا يمكننا أن نبني خططاً اقتصادية تعوّل على إحياء الليرة أو تعطي الثقة بالليرة أو تعوّل على استعادة الثقة بالليرة، وذلك لأسباب اقتصادية عملية بحتة". في المقابل، أشارت جمعية المستهلك إلى أن "الدولرة هنا لن يستفيد منها إلّا التجار، كما استفادوا من الدعم الذي تجاوز 25 مليار دولار قبل 3 أعوام، كذلك ستفاقم التضخم وانهيار الليرة".

حصار الغلاء وأزمة المصارف
في سياق المرحلة الجديدة التي دخل بها لبنان ويترقبها المواطنون وهم محاصرون بموجة غلاء غير مسبوقة في تاريخ البلاد، يقول الكاتب الاقتصادي أنطوان فرح لـ"العربي الجديد"، إن "التأثيرات لن تكون كبيرة على المواطنين، بمعنى أنهم لن يشعروا بفروقات لأسباب عدة، أبرزها أن سعر الصرف الجديد بدأت تداعياته مسبقاً مع اعتماد الدولار الجمركي على أساس 15 ألف ليرة، والرقم نفسه بالنسبة إلى بعض الرسوم والضرائب التي لحظتها موازنة عام 2022، يبقى حتماً التأثير النفسي، باعتبار أن اللبنانيين عاشوا تحت مظلة الـ1507 ليرات لسنين طويلة".

من ناحية ثانية، يلفت فرح إلى أن هناك مشكلة الرساميل، خصوصاً المصارف اللبنانية، التي هي مقوّمة على دولار الـ1507 ليرات، بجزء منها، وتبلغ نحو 18 مليار دولار، وبالتالي فإنه عند إعادة تقييمها على 15 ألفا ستنخفض إلى حدود 3 مليارات دولار بما يعني أنها ستفقد الملاءة، ولا يمكن الاستمرار بملاءة متدنية عن المعيار المعتمد للبنوك، من هنا فإنها ستضطر إلى زيادة رساميلها، لكن وُجد مخرج لذلك من خلال إعادة تقييم الأصول والعقارات والممتلكات على دولار صيرفة، وبهذه الحالة تأخذ رساميلها قيمة أكبر ويبتعد خطر وقوعها بالإفلاس نتيجة هذا الموضوع".

ويشير الكاتب الاقتصادي إلى أن الإجراء الجديد كان يفترض أن يكون محطة لتوحيد سعر الصرف وانطلاقاً من خطة تعافٍ، لكن تبعاً للمشهد القائم، واستبعاد قرب موعد إقرار خطة التعافي، يبدو أن المحطة ستكون طويلة المدى وستعتمد أقله حتى نكون أمام انتظام سياسي في البلاد، وانتخاب رئيس للجمهورية، والذهاب من جديد نحو مفاوضات مع صندوق النقد الدولي وإقرار خطة التعافي.
ويلفت فرح إلى أن كل الإجراءات المتخذة هي لتنظيم الفوضى القائمة، والتي ستبقى مستمرّة في ظلّ الوضع غير الطبيعي الذي تعيشه البلاد.

ارتدادات إيجابية على المودعين
من جهته، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمال، لـ"العربي الجديد"، إن هناك إيجابية باعتماد سعر صرف 15 ألف ليرة مرتبطة بالمودعين الذين سيسحبون جزءاً من ودائعهم الدولارية على أساسه بدلاً من 8 آلاف ليرة، وبالتالي فإن خسائرهم رغم أنها كبيرة بالنظر إلى سعر صرف الدولار الذي يتجاوز الستّين ألفا اليوم، تقلّ عما كانت عليه.
كذلك، يضيف رمال: "من ناحية المصارف والبنك المركزي، فإنه عندما ارتفع سعر الصرف مسجلاً أرقاماً كبيرة، انخفضت السحوبات الشهرية من الحسابات الدولارية التي كانت بين 800 مليون ومليار شهرياً، والمودع لا يريد أن يسحب من ودائعه على سعر 8 آلاف ليرة، الأمر الذي أدى إلى حصول جمود في الحسابات الدولارية لدى المصارف، مع العلم أن هذه الأخيرة من مصلحتها أن تتخلص من أموال الناس الدولارية عبر التعاميم، لأنها تسحبها بأقل بكثير من قيمتها الفعلية".

ويلفت رمال إلى أن سعر الصرف في السوق السوداء ارتفع أكثر من عشرين ألف ليرة منذ أن أعلن قبل فترة عن بدء اعتماد سعر صرف جديد مطلع شهر فبراير/ شباط الماضي، واليوم فإن سعر الصرف بات يتأثر أكثر بالطلب وحركة المضاربة الحاصلة، وكمية الشراء الكبيرة التي تقوم بها المصارف من مصرف لبنان، أما العنصر السياسي فبات ثانوياً في هذا الإطار.
كذلك، يقول رمال: "هناك موضوع القروض الدولارية، لكن لم يصدر تعميم بعد بشأنها (حتى عصر أمس)، فهناك حوار مستمرّ حولها ضمن وجهتي نظر، الأولى، أن كل القروض الشخصية والسكنية التي تقلّ عن 1000 دولار تبقى على أساس سعر الصرف القديم أي 1507 ليرات باعتبار أنها تكون لذوي الدخل المحدود أو المتوسط، خصوصاً أنها أصبحت في نهاياتها، والثانية تقول إنه طالما أن المودع يسحب على 15 ألفا فيجب السير بهذا السعر على القروض، ويفترض حسم الموضوع قريباً".

السوق السوداء تنتعش
سجل سعر صرف الدولار في السوق السوداء منذ إعلان بدء تنفيذ سعر الصرف الرسمي الجديد ارتفاعاً خلال نهار أمس، متخطياً عتبة الـ60 ألف ليرة لبنانية، علماً أن القضاء تدخل للجم الارتفاع، من دون أن يؤدي ذلك إلى نتيجة، كما لم يسفر تعميم مصرف لبنان الأخير عن خفض سعر صرف الدولار.

وأحال النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات كتاباً إلى النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، طلب فيه تسطير استنابات قضائية فورية إلى أفراد الضابطة العدلية كافة بغية إجراء التعقّبات والتحقيقات الأولية كافة، والعمل على توقيف الصرافين والمضاربين على العملة الوطنية والتسبّب بانهيارها، واقتيادهم إلى دائرة النيابة العامة المالية لإجراء المقتضى القانوني، وإفادته بالنتيجة بالسرعة الممكنة.

سجل سعر صرف الدولار في السوق السوداء منذ إعلان بدء تنفيذ سعر الصرف الرسمي الجديد ارتفاعاً خلال نهار أمس، متخطياً عتبة الـ60 ألف ليرة لبنانية


وسبق أن جرت محاولات كثيرة من قبل النيابة العامة في هذا الإطار، وتم توقيف عددٍ من الصرافين من بينهم نقيب الصرافين الأسبق محمود مراد، كذلك جرى تحرّك لوقف التطبيقات والمواقع الإلكترونية التي تحدد سعر الصرف، بيد أنها كلها فشلت في لجم ارتفاع سعر صرف الدولار، أو وقف التلاعب بالأسعار.

كما مدّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة صلاحية التعميم رقم 161 المتعلق بالإجراءات الاستثنائية للسحوبات النقدية، حتى نهاية فبراير/ شباط الجاري، والذي يجيز للمواطنين السحب من حساباتهم المصرفية بالدولار على أساس منصة صيرفة، علماً أنه كان ينتظر أن يتخذ إجراءات مختلفة بعد الاجتماع الذي عقده مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير المال يوسف خليل، يوم الجمعة الماضي، وخصص لبحث الأوضاع المالية والتلاعب الجاري في سعر صرف الليرة تجاه الدولار.

المساهمون