في كتابه "قصة ديون مصر الخارجية من عصر محمد علي إلى اليوم"، الصادر عام 1987، أشار الدكتور جلال أمين، رحمه الله، على أساس دراسة هانسن لإحصاءات الدخل القومي المصري خلال الفترة 1912-1956، إلى ملاحظة مثيرة للتأمل، هي أنّ "تحوّل مصر من دولة مكتفية بمواردها إلى دولة مدينة، أو من دولة مدينة إلى دائنة، لم تحكمه حاجة مصر إلى الاقتراض أو قدرتها على السداد، بقدر ما حكمته تقلّبات ظروف الاقتصاد الدولي.
ففي عصر من الرخاء لم تكن لدى مصر أدنى حاجة للاستدانة لتنمية اقتصادها، أقدمت على التورّط في الديون، وفي فترة انكماش وكساد شديد الوطأة، وفي ظل ركود شبه تام في متوسط الدخل، كالذي ساد مصر في ما بين 1912 و1943، سددت جزءاً كبيراً مما سبق لها اقتراضه"!
وهو النمط الذي أكد تكراره في تاريخ مصر الحديث، فلم يرتبط الاقتراض المتزايد دوماً بالحاجة الماسّة له، بقدر ما ارتبط بوجود فوائض مالية بحاجة للتوظيف المُربح؛ كما لو كان يتم أساساً ارتباطاً بتوافر الفوائض القابلة للإقراض عالمياً بحد ذاته، في صورة معكوسة ومناقضة لأيّ منطق ينطلق من حسابات موضوعية للاحتياجات والظروف الداخلية.
الأمر الذي تؤكده مشاهدات سابقة ولاحقة لتلك المرحلة، عندما تضخّمت مديونية مصر في عصرَي إسماعيل والسادات، حينما أفلست مصر إسماعيل عام 1876 بعد عام واحد من إفلاس الباب العالي العثماني، وحينما انضمّت مصر إلى ركب الدول المدينة في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته كجزء من "ظاهرة دولية عامة".
يطرح هذا فرضية تفاقم هذه الديون ابتداءً كاستجابة لحاجة أوروبا أولاً، ثم الغرب عموماً فيما بعد، للإقراض في فترات توافر فوائض مالية غير مُوظّفة، في ظل تشبّع القطاعات الإنتاجية وانغلاق أبواب التشغيل الاستثماري المُنتج في البلاد الأم، أي بصيغة أحدث وأكثر ماكروية، لكونها أداة لاستتباع الدول الطرفية الأضعف كفناء خلفي لتخفيف آثار التقلّبات الاقتصادية لديها، وكوسادات لاستقبال الصدمات والارتدادات، الناتجة من مراحل الفائض والعجز في الدورة الاقتصادية الكُبرى؛ لتقليل وطأتها في المراكز الرأسمالية، ونقل جزء من تكلفتها لتلك الأطراف الأضعف.
هى ليست ديون لمواجهة احتياجات الدول النامية إذاً، بل بالأساس، لحل مشكلات في الدول المتقدمة، وخصوصاً مع ميلها لتكوين موجات دورية عامة من الاقتراض والمديونية تجتاح العالم في فترات تراكم الفوائض المالية وضعف منافذ التراكم، سواء تم ذلك بحسن نية أو سوء نية، لا فارق!
لهذا، فالسؤال هنا: هل ينطبق ذات الوصف على موجة المديونية الأخيرة، السابقة على فترة كورونا وتداعياتها، والتي ارتفعت ضمنها الديون العامة المُستحقة على الاقتصادات متوسطة ومنخفضة الدخل من 1.37 تريليون دولار إلى 3.1 تريليونات دولار، بنسبة نمو 126.3% تقريباً، خلال الفترة 2008-2019، مُقارنةً بنسبة نمو 13.2% فقط خلال الفترة الموازية السابقة عليها مباشرةً؛ وبما سبّب أكبر معدل نمو لديون الدول النامية منذ نصف قرن، ببلوغ نسبة ديونها إلى ناتجها الإجمالي أكثر من 170% في ذات العام؟
الواقع أنّ المراقب للعقدين الأخيرين في العالم سيلاحظ ظاهرتين أساسيتين متزامنتين تشيران إلى ذلك: أولاهما، تصاعد الاعتماد الأميركي على سياسة التسيير الكمّي لمواجهة الأزمة المالية العالمية عام 2008 وآثارها؛ بما أطلقته من تدفقات مالية مُصطنعة لا تعبّر عن أي نمو اقتصادي حقيقي.
وثانيتهما، وتمثل سياقاً أشمل ذا صلة بالأزمة المذكورة، وهي التراجع المستمر في التجارة الدولية، من نقطة ذروتها التاريخية إبان الأزمة نفسها عند نسبة 61% من إجمالي الناتج العالمي، إلى 52.8% منه عام 2020، بما يشير إلى استمرار حالة الخمول الناتجة من الأزمة، وعدم فاعلية التدفقات المالية المذكورة في تنشيط الاقتصاد العالمي بشكل حقيقي.
هذه التدفقات المالية الهائلة عبر عقد ونصف من الدولارات الجديدة التي ضخّها البنك الفيدرالي الأميركي في الأسواق، كان لا بد من منافذ متعددة لتصريفها عالمياً؛ لئلا تنعكس بآثار تضخّمية عاجلة على الاقتصاد الأميركي محلياً؛ فتضرّ أكثر مما تفيد، فيما هي في أصلها الكينزي كسياسة تحفيز اقتصادي، إنما تستهدف أساساً تحفيز الطلب الكلي دونما زيادة مقابلة كبيرة في العرض الكلي؛ لمواجهة فائض الإنتاج وسدّ الفجوة الانكماشية فيما بينهما؛ للحفاظ على الاقتصاد عند أقرب مستوى ممكن من التشغيل الكامل، أي مستوى البطالة الطبيعي فريدماني الأصل.
وهكذا، كان تصدير تلك الدولارات، بغضّ النظر عن مالكها القانوني المباشر، غير المهم في هذا السياق، إلى البلدان النامية في صورة قروض أحد تلك المنافذ، خصوصاً مع ما يعود منها في صورة طلب مباشر أو غير مباشر على سلع وخدمات شركات أميركية محلية داخل الحدود، أو دولية عابرة لها، تحفّز تشغيل الاقتصاد الأميركي وتحقنه بتدفقات دخل خارجي إيجابية، أو ما يتجه منها للبنية التحتية في الدول النامية فيمهد أراضي خارجية جديدة للاستثمارات الغربية عموماً.
لا عجب مع هذه الاستراتيجية، من اقتصار توظيف أغلب تلك القروض، المشروط بشكل معلن أحياناً، على مجالات ونشاطات مُحددة، لا تخرج في معظمها عن شراء السلاح الغربي والتقنيات الصناعية المتقادمة بنظام تسليم المفتاح وتمويل عجوزات التجارة، خارجياً، والإنفاق على البنية التحتية بصورة شبه حصرية، داخلياً.
وبالعودة إلى الفرضية العامة، من عدم أهمية استفادة الدول المُقترضة من تلك القروض "المسمومة"، بقدر أهمية تصدير تلك الأموال الفائضة بحد ذاته، فضلاً عن عوائدها المستقبلية ومكاسبها السياسية للدول المُقرضة، يبرز عددٌ من المشاهدات الثابتة تاريخياً والمُؤيّدة علمياً:
أولاً: أثبتت الدراسات لا معنوية الأثر التنموي لكثير من الإنفاق على البنية التحتية، بل سلبيته أحياناً، ما دام لم يتحوّل إلى حالة العائدية الاجتماعية باستثمار إنتاجي فعلي يستفيد منها ومن الإنفاق المُوظّف فيها؛ ما ينتهي به عملياً لئلا يختلف عن أي إنفاق استهلاكي؛ ما يقدح في كامل صحة ومصداقية الإيديولوجية التنموية للبنك الدولي وشقيقه صندوق النقد، باختزالها جوهر الإشكالية التنموية في فجوة الموارد ومجموعة التوازنات الكلية والترتيبات المؤسسية.
ثانياً: اعترف مسؤولو المنظمات الدولية المذكورة، وكثير من قادة الدول الغربية، بمعرفتهم الوثيقة بالإهدار المستمر لأموال المعونات والقروض التي تحصل عليها دول العالم الثالث، عبر قنوات الفساد الصريح والضمني، وانتهائها بجيوب المسؤولين بتلك الدول وحساباتهم البنكية بالخارج.
ثالثاً: التوظيف المتكرر تاريخياً للمديونية في المشروطيات السياسية والاقتصادية، التي تتمثل أبرزها وأعمّها في مشروطية صندوق النقد الدولي نفسها، المُلتحفة بدعاوى الكفاءة، في نطاق السياسات الاقتصادية وهيكلة اقتصادات الدول.
فيما تتبلور أخصّها وأكثرها فجاجة، في استخدامها كأداة ضغط سياسي صريح على الدول، وتوظيف قرارات جدولتها وإسقاطها كمكافآت سياسية، كما حدث مع مصر بعد مشاركتها في حرب الخليج الثانية باتفاقات نادي باريس أوائل تسعينيات القرن الماضي.
ولا يخفى على القارئ أنه حتى بافتراض حسن النية في النقطة الأولى، رغم الأدلة التاريخية والإمبريقية وحتى المشاهدات العيانية على فشل هذه الاستراتيجية، فإنّ اجتماع النقطتين الأخيرتين بالخصوص، إنما يعني توافر كل دوافع التواطؤ الحتمي ما بين تلك المنظمات الدولية والقوى الكبرى المهيمنة عليها والمتمترسة وراءها، والبيروقراطيات الحكومية المسيطرة على الدول المدينة؛ بشكل يجعل من المديونية هدفاً قائماً بذاته؛ لمصالحهما المُشتركة، أي "مديونية مسمومة" أبعد ما تكون عن أي دعاوى تنموية أو مصالح اجتماعية مما تزعم استهدافه علناً.
يؤيد هذا الطابع السام، أنّ تكامل دورة المديونية مع الدورة الاقتصادية الكلية، وموقعها الفعلي منها، إنما يجعل حلقة إقراضها للأطراف المدينة في فترات الرواج، فيما حلقة سدادها للمراكز الدائنة في فترات الركود؛ ما تكون نتيجته عملياً كونها في حلقتها الأولى، "الإقراض"، جزءاً من خدمة ذلك الرواج في المراكز في حينه؛ لكونها تعود بطلب على فائض منتجاتها، وتخفّف من الضغط التضخّمي لتراكم الفوائض وتراجع عائداتها.
فيما تتزامن في حلقتها الثانية، "السداد" مع مرحلة الركود؛ ما تنخفض معه الاستفادة الإنتاجية والعائدات المُحتملة للأطراف مما موّلته تلك المديونية في المرحلة السابقة؛ فلا تنعكس بكسب ذي معنى على اقتصادات الأطراف المدينة، بل يزداد موقفها سوءاً بضرورة سداد ما سبق واستدانته، بالاقتصاد أو بالسياسة لا فارق؛ لدعم اقتصادات المراكز الدائنة في مرحلة الركود.
إنّها لعنة فائض الأموال غير المُوظّفة مقابل فائض الإنتاج غير المُصَرَّف، تمتصّ أجسادُ فقراء دول الأطراف المدينة سمومها، لتعيد تقيؤها غنيمةً باردةً من عسلٍ صافٍ على موائد أغنياء دول المراكز الدائنة!