دستور سعيّد وأزمة تونس الاقتصادية

26 يوليو 2022
الغلاء والاضطراب السياسي يرهقان الحياة المعيشية للتونسيين (getty)
+ الخط -

كان التونسيون على موعد أمس 25 يوليو/ تمّوز 2022 مع المشاركة في الاستفتاء على مشروع دستور جديد اقترحه الرئيس قيس سعيّد كبديل لدستور 2014 الذي كان نتيجة لمسارٍ شفاف دام عامين، وجاءت هذه الخطوة بعد سنة من اتِّخاذ الرئيس لتدابير استثنائية شملت تقويض المؤسسات الديمقراطية، وتجميد عمل البرلمان، وتوسيع سلطاته كرئيس، وإقالة حكومة هشام المشيشي المنتخبة، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بآخر مؤقَّت تحت ذريعة إيجاد حلّ فعّال للانسداد السياسي الذي أدخل البلاد في كابوس اقتصادي.

في حال أسفرت النتائج النهائية للتصويت عن موافقة الغالبية، ستعاد تونس إلى نظام رئاسي شبيه بما كان عليه الوضع قبل ثورة 2011 ووضع نقطة النهاية للنظام الرئاسي-البرلماني المختلط الذي أقرَّه دستور ما بعد الثورة والذي شارك فيه خبراء القانون والأحزاب والقوى السياسية والمجتمع المدني.
بالإضافة إلى افتقار دستور سعيّد الجديد للشمولية والشفافية، إذ صُمم بما يتماشى مع تمتُّع الرئيس بصلاحيات أكبر على حساب البرلمان وتشديد قبضته على السلطة، تمرّ تونس بأزمة اقتصادية طاحنة، إذ يعاني خُمس القوّة العاملة من شرك البطالة وتدهورت نسبة الفقر إلى أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة، وهذا علاوة على تأخُّر صرف رواتب موظفي القطاع العام والعجز عن سداد ثمن واردات شحنات الحبوب، وتسجيل معدل التضخُّم أعلى مستوى له منذ ثلاث سنوات ليصل إلى 8.1 بالمائة في يونيو/ حزيران الماضي.
تواجه تونس مأزقاً اقتصادياً رهيباً بسبب عبء إنفاق القطاع العام والديون العامة على ميزانية الدولة، فبحسب توقُّعات محافظ البنك المركزي التونسي، مروان العباسي، من المتوقع أن يرتفع عجز الميزانية التونسية إلى 9.7 بالمائة هذا العام، كما هبط الدينار التونسي إلى مستويات قياسية جديدة مقابل الدولار، إذ جرى تداوله بسعر 3.101 دنانير مقابل الدولار في مايو/ أيّار الماضي، بينما بلغ الدين العام لتونس 105.7 مليار دينار (35.01 مليار دولار) بنهاية مارس/ آذار الماضي بزيادة قدرها 8.6 بالمائة مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي.
لم تتمكَّن السلطات التونسية من تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي دعا إليها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي خشية اندلاع غضب شعبي واسع النطاق، وما زالت تلك السلطات تسعى للتوصُّل إلى اتِّفاق جديد مع صندوق النقد بهدف الحصول على حزمة إنقاذ بحوالي 4 مليارات دولار تُمكِّنها من استكمال موازنتها لعام 2022، وبنجاح سعيها سيكون المواطن التونسي البسيط هو الضحية الأولى نظراً لتحمُّله ويلات برامج الإصلاح المقترنة برفع الدعم وزيادة الأسعار وخفض فاتورة رواتب الموظفين العموميين، وفي المقابل سيُكلَّل فشل المفاوضات بحبس البلاد في دوامة الأزمات نتيجة تآكل ثقة رأس المال الأجنبي والمانحين في الاقتصاد التونسي.

في ظلّ خطر الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يهدِّد تونس، يسعى الرئيس قيس سعيّد إلى طمأنة حلفائه والمانحين بشأن قدرته على إدارة شؤون البلاد وتقديم حلول لمختلف المشكلات من خلال الدستور الجديد الذي يجمع بين يديه كل السلطات، إلّا أنّ ذلك لا يكفي لتشجيع الحلفاء والمستثمرين الأجانب المصمِّمين على تنفيذ السلطات التونسية لخريطة طريق واضحة ضمن جدول زمني محدَّد.
من الممكن أيضاً أن يكون حذف مرجعية الإسلام ديناً للدولة في الدستور الجديد وسيلة لنيل رضا المؤسسات الدولية المانحة وتحفيزها على التغاضي عن تقييد الحريات والمضي قُدماً في تقديم المساعدات والقروض دون المغالاة والتشدُّد في الشروط.
أكَّد الرئيس سعيّد أنه سينهي منظومة الفساد بهذا الدستور الجديد، متدثراً برداء الشعبوية، فقد سبق له أن تحدَّث عن عصابة من الشخصيات الفاسدة التي تعمل على إفقار التونسيين، وشدَّد على الحاجة إلى "مصالحة جزائية" تصادر الدولة من خلالها المكاسب غير المشروعة للشخصيات الفاسدة وتوجِّهها إلى مشاريع التنمية المحلية، ولطالما انتقد الاحتكاريين الذين اتَّهمهم مراراً وتكراراً برفع الأسعار.
ومنذ 25 يوليو/ تمّوز 2021، أجرى المسؤولون العموميون عدّة مداهمات على المستودعات التي يُفترض أن توجد بداخلها بضائع مخزَّنة، وأصدر الرئيس سعيّد قرارات بإقامة مصالحة جزائية وتشديد العقوبات بحقّ المحتكرين والمضاربين، لكن آليات التنفيذ كانت دائماً غامضة والمكاسب غير مؤكَّدة إلى حدٍّ كبير، واقتصرت العملية على بعض رجال الأعمال الصغار وكان هناك تجنُّب كبير للمواجهة مع الحيتان الكبرى.
من الواضح جدّاً أنّ الرئيس سعيّد يفتقر إلى القوّة أو الإرادة للدخول في صراع مع أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال خوفاً من فقدان دعمهم، مكتفياً بمهاجمة مؤسسات أخرى مثل القضاء وحتى النقابات، دون اتِّخاذ خطوات ملموسة ضدّ النخب الأوليغارشية.
كانت تونس العام الماضي في أزمة وهي الآن في كارثة في ظلّ تفاقم الفقر والدين العام وتغوُّل التضخُّم، فالعديد من الشباب الضائع يحلم فقط بالهجرة إلى الضفة الأوروبية طمعاً في خلع ثوب الفقر الذي لا يُخلع بمجرَّد تغيير الدستور، فقد أعرب 65 بالمائة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و29 سنة عن رغبتهم بالهجرة من تونس مقابل 37 بالمائة من فئة المستجوبين الذين تتجاوز أعمارهم 30 عاماً، وأفاد 67 بالمائة من الراغبين بالهجرة بأنّ الأوضاع الاقتصادية المزرية هي الدافع الرئيسي وراء قرارهم، وأكَّد 41 بالمائة من الراغبين بالهجرة عن نيتهم فعل ذلك حتى بطرق غير شرعية في ظلّ غياب الأوراق الرسمية القانونية اللازمة للهجرة وفقاً لنتائج استطلاعات دورة الباروميتر العربي السابعة التي أُجريت بين أكتوبر/ تشرين الأول 2021 ويوليو/ تمّوز 2022.

فشل الرئيس سعيّد في معالجة جميع التحدِّيات الاقتصادية التي تواجه تونس تقريباً، ومنذ حوالي العام من انقلابه ركَّز فقط على ترسيخ السلطة السياسية بين يديه بدلاً من خفض البطالة وتقليص عجز الميزانية ومكافحة التضخُّم، وها هو الدستور الجديد يضع السيطرة الوحيدة على ميزانية البلاد في يد الرئاسة، في الوقت الذي لا يريد فيه معظم التونسيين الإصلاحات التي يجب على الرئيس أن يمضي قُدماً فيها من أجل التأهُّل كمرشَّح للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي.
خلاصة القول؛ الخوف كلّ الخوف أن يجعل الدستور الجديد، الذي وصفه النقّاد بأنّه انعكاس غير ديمقراطي لمكاسب ما بعد الربيع العربي، من تونس واحدة من قطع الدومينو العربية التي تتهاوى في مسلسل التطبيع مع إسرائيل.

المساهمون