في يناير 2011 تلقيت اتصالاً من مسؤول بارز في الدولة المصرية، فحواه أنّ هناك عمليات تهريب للأموال تجرى عبر المطارات والطائرات الخاصة بكبار رجال الأعمال، خاصة المحسوبين على النظام الحاكم في ذلك الوقت، وأنّ رجل أعمال بارزاً كان واحداً من بين 3 شخصيات تتولى إدارة الحزب الوطني الحاكم وله موقع مرموق في مجلس الشعب يقوم قبل اندلاع ثورة 25 يناير مباشرة بتهريب أمواله في كراتين ورقية تعرضت واحدة منها للفتح على سير المطار، وأبلغ موظف المطار السلطات المسؤولة، لكنّ التعليمات صدرت بعدم الاعتراض.
كان المسؤول، الذي شدد على عدم الكشف عن هويته وقتها، يرغب في نشر تلك الأخبار رغم أنه لم يطلب ذلك بشكل مباشر، وذلك لقطع الطريق على مهربي الأموال ولفت الصحافة والرأي العام إلى خطورة ما يحدث من استنزاف لموارد الدولة الدولارية.
عمليات تهريب للأموال جرت قبل اندلاع الثورة عبر المطارات والطائرات الخاصة بكبار رجال الأعمال، خاصة المحسوبين على نظام مبارك
وقتها شدد القطاع المصرفي الخاضع للبنك المركزي على عمليات تحويل الأموال إلى الخارج ومنها ضرورة الرجوع إليه قبل التحويل، للحيلولة دون استخدام رجال أعمال مبارك القطاع لتهريب الأموال إلى الخارج، سواء في شكل تحويلات نقدية، أو عبر فتح اعتمادات مستندية بمبالغ ضخمة ومبالغ فيها، والتحجج بأنّ عملية الفتح تتم لصالح تمويل استيراد مصانع وخطوط إنتاج ومواد خام وسلع وسيطة من الخارج، أو غيرها من العمليات المصرفية.
ساعتها توقعت حدوث ضغوط شديدة على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي والبالغ وقتها 36 مليار دولار، وهو رقم كان مريحاً للاقتصاد، إذ كانت قيمته تفوق حجم الدين الخارجي للبلاد وكافية لتغطية احتياجات الواردات وسدّ أعباء الديون وغيرها من الالتزامات الدولارية.
كما توقعت حدوث ضغوط شديدة على سعر صرف الجنيه، حيث زاد الطلب على الدولار وتخزينه من قبل مستثمرين ومضاربين في المنازل، أو تهريبه إلى بنوك عربية وعالمية معروفة باستقبال الأموال المشبوهة، كما كان الحال مع بنوك سويسرا وغيرها من شركات الملاذات الضريبية.
وحدث ما توقعت، حيث تراجعت قيمة الاحتياطي النقدي لأسباب بعضها اقتصادي بحت، وبعضها يتعلق بالضغوط الشديدة من قبل المستثمرين المحللين والأجانب على سوق الصرف الأجنبي، واستمر التراجع في الأعوام 2012 و2013 و2014 وحتى نهاية عام 2016 حين جرى تعويم الجنيه مقابل حصول مصر على قروض خارجية ضخمة، منها 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.
الآن وبعد 11 سنة من قيام ثورة 25 يناير، تخرج علينا أكاذيب تهيل التراب على الثورة وتحمّلها خسائر ليست موجودة إلّا في مخيلة مروّجيها، وذلك من نوعية أنّ الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي خسر قرابة 20 مليار دولار في عام 2011.
رقم يجري تضخيمه حالياً، في محاولة للإساءة للثورة المصرية وطمس ملامحها والتفزيع من أيّ ثورة جديدة.
مزاعم بخسارة الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي قرابة 20 مليار دولار في عام 2011
لكن ما لم يقله هؤلاء الذين يزيفون الحقائق عن عمد، هو أنّ هذا التراجع الحاد حدث لعدة أسباب لا علاقة للثورة والأحداث التالية بمعظمها.
أول تلك الأسباب هو أنّ جزءاً مهماً من الاحتياطي الأجنبي تم إنفاقه لتغطية كلفة واردات البلاد من القمح والأغذية والسلع التموينية والزيوت والوقود من بنزين وسولار وغاز ومواد خام وسلع وسيطة ومستلزمات الإنتاج الضرورية لقطاع الصناعة، وهو أحد أدوار الاحتياطي الرئيسية في كل دول العالم.
كما أنّ جزءاً آخر من الاحتياطي تم توجيهه لسداد أعباء الديون الخارجية المستحقة على الدولة في هذا العام، علماً أنّ النظام الحاكم في ذلك الوقت كان حريصاً على سداد أيّ التزامات خارجية حفاظاً على مصداقية الدولة.
أما الجزء الثالث مما تم إنفاقه من الاحتياطي الأجنبي فقد تم توجيهه لسداد مستحقات خارجية، منها مديونيات شركات البترول الأجنبية، والأموال الأجنبية الساخنة التي خرجت من البلاد عقب اندلاع الثورة.
إذ إنّ البنك المركزي كان ملتزماً بسداد تلك الأموال النازحة من البورصة وأدوات الدين، مثل السندات وأذون الخزانة وحتى من الاستثمارات المباشرة.
وكان يراهن على عودة تلك الأموال في حال استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية، وهو ما حدث بالفعل في وقت لاحق، حين عادت معظم تلك الأموال الهاربة بعد ذلك.
يجب عدم تضخيم أرقام الخسائر التي حدثت في 2011 وتحميلها لثورة كانت ولا زالت من أعظم الثورات في العصر الحديث
هنا، تقتضي الأمانة أن نقول إنّ الالتزامات والضغوط على الاحتياطي الأجنبي كانت كبيرة في عام 2011 بسبب عدة عوامل، منها هروب الأموال الساخنة، وتراجع إيرادات السياحة بنحو مليار دولار، وتهريب بعض كبار رجال الأعمال للأموال إلى الخارج، وهو ما رصدناه في وقت لاحق في بنوك سويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة والإمارات وغيرها.
لكن في المقابل يجب عدم تضخيم أرقام الخسائر التي حدثت في العام 2011 وتحميلها لثورة كانت ولا زالت من أعظم الثورات في العصر الحديث.