رغم التكتم الشديد للاحتلال الإسرائيلي على كلفة الحرب ضد قطاع غزة ومحاولة التقليل من الخسائر التي تسببت فيها صواريخ المقاومة الفلسطينية، إلا أن ثمة أضراراً فادحة ناجمة عن تضرر سمعة الصناعات العسكرية الإسرائيلية وضرب أحلام إسرائيل في الطاقة وبدائل قناة السويس المصرية.
ولا تنحصر التداعيات الاقتصادية في الأضرار الآنية المباشرة، بل سيكون للحرب تداعيات متوسطة وطويلة الأمد، تفضي إلى المس بمكانة تل أبيب الإستراتيجية والاقتصادية.
ومما زاد الأمور تعقيدا بالنسبة لتأثيرات الحرب على الواقع الاقتصادي الإسرائيلي، حقيقة أن إسرائيل فرضت هذه الجولة القتالية بعد تفشي وباء كورونا، والذي أدى إلى أضرار هي الأكبر لاقتصاد الاحتلال منذ حرب العام 1973، كما يقول عاموس مالكا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق في تصريحات صحافية أخيراً.
ورغم تعدد الخسائر إلا أنها تطاول خمسة قطاعات حيوية لإسرائيل تتجاوز ارتداداتها العمق الداخلي لتصل إلى أطراف متحالفة في الخارج، وفق رصد لـ"العربي الجديد" من خلال تحليلات وتقارير أوردتها وسائل إعلام إسرائيلية.
زيف الصناعات العسكرية
تترتب على شن الحرب على قطاع غزة كلفة عسكرية باهظة، تتمثل في قيمة القذائف والصواريخ والذخائر وما يتطلبه تشغيل منظومات الدفاع الجوية، فضلا عن كلفة إدارة وتشغيل المنظومات التقنية والاستخبارية.
وتتعامل إسرائيل مع كلفة العمليات والجهد الحربي كأسرار لا يتم الكشف عنها، لكن من الواضح أن الجيش في أعقاب هذه الحرب سيطلب إدخال زيادة على موازنته والتي تبلغ حوالي 9 مليارات دولار.
ولعل المعطى الوحيد الذي بالإمكان الكشف عنه من حيث الكلفة العسكرية يتمثل في كلفة تشغيل منظومة "القبة الحديدية"، التي تستخدم في اعتراض الصواريخ التي تنطلق من قطاع غزة. فقيمة الصاروخ الواحد تبلغ 50 ألف شيكل (حوالي 15 ألف دولار)، وحسب التقديرات فإن هذه المنظومة تطلق عدة آلاف من هذه الصواريخ.
إلى جانب ذلك، فإن استدعاء قوات الاحتياط للخدمة في محيط قطاع غزة يؤثر بشكل مباشر على عجلة الاقتصاد الإسرائيلي، حيث إن ضباط وجنود الاحتياط يعملون في الأوضاع الطبيعية في القطاعات الخدماتية والإنتاجية والجهاز البيروقراطي.
وسيترتب على الحرب جملة من التداعيات غير المباشرة والتي ستؤثر سلباً على الواقع الاقتصادي، وستتمثل في الأساس بالمس بسمعة صناعاتها العسكرية، بعد أن أظهرت الحرب فشل المنظومات التقنية والعسكرية التي حازت في الماضي على شهرة واسعة، في تحقيق أهدافها، مما سيقلص من قدرة تل أبيب على مواصلة تسويقها.
وأهم المنظومات العسكرية والتقنية الإسرائيلية التي خسرت سمعتها خلال الحرب هي منظومة القبة الحديدية، التي فشلت في اعتراض نسبة كبيرة من الصواريخ التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية.
ويتعاظم تأثير هذا التطور لأن الكثير من الدول، وبعضها دول متقدمة في أوروبا سارعت مؤخراً إلى عقد صفقات لشراء المنظومة، التي خصصت وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" مئات الملايين من الدولارات لتمويل مشروع تطويرها، مع العلم أن الولايات المتحدة تستفيد من خدمات هذه المنظومة.
وقد ترددت مؤخراً أنباء حول نية بعض الدول العربية شراء هذه المنظومة لتأمين عمقها المدني، وفق ما كشفت عنه صحيفة "يديعوت أحرنوت" أخيراً.
خسائر للقطاعات الإنتاجية
كما تؤثر الحرب بشكل كبير على القطاعات الإنتاجية وعلى وجه الخصوص القطاع الصناعي. وحسب المعطيات الأولية التي قدمها "اتحاد الصناعيين" فإن القيمة الجزئية للأضرار التي لحقت بالقطاع الصناعي في الأيام الثلاثة الأولى من الحرب فقط، بلغت 540 مليون شيكل (حوالي 162.2 مليون دولار)، وفق ما نقلت ذلك قناة "12" الإسرائيلية، وهذه الكلفة تتعلق فقط باضطرار المصانع للعمل جزئياً أثناء الحرب بسبب المخاطر وبسبب عدم تمكن العمال والتقنيين من الوصول إلى أماكن العمل.
ويقدر "اتحاد الصناعيين" الإسرائيلي أن ما تقدم لا شمل الأضرار الناجمة عن إصابة المصانع بالقصف بصواريخ المقاومة الفلسطينية والتعويضات التي ستدفعها حكومة الاحتلال للمتضررين في الحرب، والتي تقدر مصلحة الضرائب الإسرائيلية قيمتها بمئات ملايين الدولارات.
ولا تأخذ هذه التقديرات في الاعتبار الأضرار المالية التي تلحق بالربحية والأضرار غير المباشرة مثل الإضرار بالسمعة لدى العملاء في الخارج، وإلغاء الصفقات، وعدم الامتثال للجداول الزمنية وغير ذلك. إلى جانب ذلك، فإن توقف حركة المواصلات العامة، وتحديداً حركة القطارات التي تصل وسط إسرائيل بجنوبها ومناطق الجنوب، يؤثر على عمل المرافق الإنتاجية.
وقد تركت الحرب المتواصلة تأثيراتها على الواقع المصرفي وتحديداً دورها في تراجع قيمة العملة الإسرائيلية (الشيكل) بنسبة 1.4%، مع العلم أن الشيكل حافظ على قوته حتى في أوج تفشي وباء كورونا.
ومن المتوقع أن تتأثر البيئة الاستثمارية في إسرائيل بشكل كبير بتفجر الأوضاع الأمنية، التي لا تقتصر على الحرب على غزة، بل أيضا بالمواجهات العارمة التي تشهدها المدن الإسرائيلية، سيما بين فلسطينيي الداخل وأعضاء التنظيمات الإرهابية اليهودية، والمظاهرات التي تشهدها الكثير من مدن الضفة الغربية.
وقد راهنت دوائر صنع القرار السياسي والاقتصادي في تل أبيب على دور تعافي إسرائيل من وباء كورونا في تشجيع الاستثمارات الخارجية، سيما في مجال التقنيات المتقدمة ومشاريع البنى التحتية.
انهيار موسم السياحة
في سابقة هي الثالثة في تاريخها، اضطرت إسرائيل إلى إغلاق مطار "بن غوريون"، المطار الرئيسي، الذي يعد بوابتها إلى العالم الخارجي، خوفاً من تعرضه للإصابة بصواريخ المقاومة، التي سقط بعضها في محيطه. وحتى قبل أن تعلن إسرائيل عن إغلاق المطار، أعلنت شركات الطيران الدولية وقف رحلاتها من إسرائيل وإليها.
وحتى عندما حاولت إسرائيل إقناع شركات الطيران باستخدام مطار "رامون"، الصغير، جنوب إيلات، رفضت الشركات العالمية العرض.
وقد أوقف هذا التطور، بالإضافة إلى تفجر الأوضاع الأمنية، حركة السياحة في إسرائيل، سيما وأن موسم الصيف يشهد زيادة كبيرة على عوائد السياحة التي تعد مصدراً معتبراً للدخل الإسرائيلي. وإلى جانب أن إغلاق مطار "بن غوريون"، مس كثيراً بأحد الرموز "السيادية" لإسرائيل، فإنه سيؤثر سلباً على الناشط الاقتصادي، لأنه يكسر التواصل بين إسرائيل والخارج.
توقف أحلام الغاز
يعد قطاع الطاقة والغاز، أكثر القطاعات الاقتصادية تضرراً في إسرائيل، ليس فقط بسبب الأضرار الآنية، بل بسبب التأثيرات المستقبلية للحرب، في شكلها الإستراتيجي، على هذا القطاع، بمعزل عن موعد انتهاء الحرب.
ولعل أكثر التطورات خطورة بالنسبة لإسرائيل نجاح المقاومة في ضرب أنبوب "إيلات عسقلان"، الذي يكتسب أهمية إستراتيجية هائلة، حيث إن إسرائيل جاهرت في عرض هذا الأنبوب كأحد بدائل عبور النفط بدلا من المرور في ناقلات عبر قناة السويس.
وقد توصلت إسرائيل بالفعل إلى اتفاق مع الإمارات يقضي بتصدير النفط الإماراتي إلى أوروبا عبر هذا الأنبوب. وعلى الرغم من أن مسار الأنبوب يعد سرياً، فقد تمكنت صواريخ المقاومة من ضربه.
وإثر هذا التطور، اضطرت إسرائيل لإغلاق منصة نقل الغاز القريبة من مدينة "عسقلان" المحتلة، والتابعة لحقل "تمار" في البحر المتوسط، خشية تضررها بصواريخ المقاومة.
ومن المتوقع أن يؤثر هذا التطور على حماس الشركات العالمية والإقليمية للاستثمار في قطاع الغاز الإسرائيلي. وفي نهاية إبريل/ نيسان الماضي أعلنت شركة "ديليك دريلينغ" الإسرائيلية أنها وقعت اتفاقاً مبدئياً لبيع حصتها البالغة 22% في حقل "تمار" لشركة مبادلة للبترول التابعة لصندوق الثروة السيادي الإماراتي مقابل 1.1 مليار دولار.
وعلى الرغم من أنه لا يعرف مدى تأثير إغلاق منصة الغاز على التوجهات الإماراتية بشأن مواصلة الاستثمار في قطاع الغاز الإسرائيلي، فمن الواضح أن وقوع حقول الغاز في دائرة استهداف المقاومة الفلسطينية سيقلص من حماس الشركات العالمية، وتحديداً الأميركية للاستثمار في هذ القطاع، وفق محللين في قطاع الطاقة.
ونظرا لأن قدرات حزب الله الصاروخية أكبر وأكثر تطوراً من قدرات المقاومة في غزة، فإن نجاح المقاومة الفلسطينية في تعطيل مرافق الطاقة والغاز سيردع الشركات العالمية عن الاستثمار في مشاريع استخراج الغاز في المياه الاقتصادية التي تتنازع لبنان وإسرائيل على ملكيتها أيضا.
تصدع قطاع العقارات
لطالما عملت الشركات العقارية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة على الترويج للقطاع العقاري على أنه أحد الملاذات الآمنة للاستثمار في إسرائيل، وقد شهد النصف الثاني من عام 2020 وبداية عام 2021 زيادة كبيرة في عدد العقارات التي اشتراها مقيمون أجانب، وفق صحيفة "جيروزاليم بوست" قبل أيام.
لكن آمال إسرائيل في الترويج للاستثمار العقاري تبددت بأول صاروخ أطلقته المقاومة باتجاه المنشآت والأبنية في تل أبيب وغيرها من مناطق الاحتلال.