يستمر ثقب الفساد بالتوسع في اليمن متخذاً طرقا وأساليب وأدوات عديدة بحسب تطور مجريات الصراع في البلاد وتركزه بدرجة رئيسية في التهام الموارد الاقتصادية في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم، حسب الأمم المتحدة.
وأدى انخفاض عائدات النفط إلى جانب انقسام المناطق والمؤسسات إلى حدوث تحول في الأساليب والممارسات التي تستخدمها الأطراف المتنافسة لتحصيل الإيرادات من مختلف الأنشطة.
ويسعى كل تحالف إلى الاستئثار بأكبر كمية ممكنة من الأموال وبسط نفوذها من أجل الهيمنة على منافذ تدفق الموارد وحركة الأموال والقطاعات الاقتصادية الإيرادية، ومن ثم التحكم بكل ذلك لبناء وتأكيد تحالفاتها وترسيخ سلطاتها بالمناطق التي تسيطر عليها.
يرصد "العربي الجديد"، من خلال معاينة واستقصاء ما يجري، خلال الفترة الأخيرة، استمراراً لملف إهدار المال العام المتواصل منذ أكثر من ثماني سنوات؛ وكيف أعاد النزاع تطوير وقولبة الفساد وتشكيل أنظمة التحالفات في اليمن حول أطراف ومراكز قوى مختلفة.
وحسب مراقبين، يأتي ذلك بالإضافة إلى تنافس الأطراف والفصائل بشكل متزايد، في الآونة الأخيرة، من أجل السيطرة على التدفقات المالية والتجارية، وكذلك الموارد النفطية المتناقصة في البلاد.
تفاقم الفساد
يكشف البنك الدولي في تقرير صادر في وقت سابق من العام الحالي 2023، عن وجود فساد في إدارة الموارد وتقاسم الإيرادات في اليمن، مشيراً إلى ما وصفه "بمزاعم" منتشرة بسرقة النفط الخام، وكذلك نهب الوقود المدعوم المخصص لإنتاج الكهرباء في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً حيث يكشف تحليل حرق الغاز عن تناقضات كبيرة في التقارير الرسمية عن إنتاج النفط، كما تقدم بيانات حرق الغاز تنبؤات قوية عن حجم إنتاج النفط، إضافة إلى التباين في الإنتاج.
يرصد "العربي الجديد"، في هذا الخصوص كذلك وجود اختلافات كبيرة في واردات وصادرات الوقود بين اليمن وشركائها التجاريين تقدر بمئات الملايين من الدولارات على مدى عدة سنوات، وهو فارق لا يمكن تفسيره كما يفيد خبراء اقتصاد بأنه نتيجة أخطاء إحصائية أو اختلافات منهجية.
الاستحواذ على منافذ الإيرادات
ويرى الخبير الاقتصادي والمالي أحمد شماخ في حديثة لـ"العربي الجديد"، أن إضعاف الاقتصاد اليمني واستهداف العملة أدى إلى انهيار الدورة النقدية وتدفق حركة الأموال خارج هذه الدورة الرسمية وانتشار الممارسات المخلة والاستيلاء على الأموال والتكسب غير المشروع.
وفي نفس السياق، المحلل الاقتصادي غمدان المعمري، يؤكد أن الفساد أحد أهم الأسباب الرئيسية التي أدت إلى انهيار الاقتصاد والعملة المحلية وتفاقم الأزمات المعيشية بمستويات قياسية مع ارتفاع الأسعار وتجاوز التضخم رقما قياسيا يزيد على 80%.
وركزت الأطراف المتنازعة كما يوضح المعمري لـ"العربي الجديد"، على بناء وتكوين نظامها الاقتصادي الخاص بها والاستحواذ على منافذ ومنابع الإيرادات كالتحكم بتجارة الوقود بالنسبة للحوثيين وتطويرهم لمنظومة جبائية واسعة النطاق للاستحواذ على الموارد العامة والخاصة.
شبكات الحوثيين
يقدم البنك الدولي ما قال إنه أوضح دليل على وجود شبكات التحالفات والمتمثل باستقرار حكم الحوثيين في المناطق القبلية التي لطالما قاومت تاريخياً كلا من الحكومة المعترف بها دولياً وحكومة ما قبل الحرب، وذلك بالنظر إلى ما تتمتع به مناطق سيطرتهم بقدر أكبر من التنوع، وتمتلك فرصا أكثر من مناطق سيطرة الحكومة اليمنية.
وأصبح فرض الضرائب على السلع والأسواق والشركات المصدر الرئيسي للإيرادات، في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، والتي يُقال بحسب البنك الدولي إنه يُعاد توزيعها على السلطات والقيادات المحلية ومن بينها القطاع العسكري.
سرقة الودائع بالمناطق الحكومية
وفي المقابل، تحقق المناطق الحكومية معدلات نمو اقتصادي أفضل بالنظر إلى سيطرة الحكومة على حقول النفط والغاز الرئيسية والتي لا تحصل على الفائدة القصوى منها، حيث تضطر إلى مشاركة خُمس إيراداتها على الأقل مع المجموعات المحلية وأيضاً عدم بيعها للغاز المصاحب.
من جانبه، يلفت الباحث الاقتصادي عصام مقبل، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً والتي اختل توازنها في أول ثلاثة أعوام من الحرب في اليمن، بدأت باستعادة هذا التوازن مع تدفق أموال العملة الجديدة المطبوعة، ومن ثم الوديعة السعودية الأولى المقدرة بنحو ملياري دولار، ومن ثم أعادت وضع يدها بمساعدة عديد الأطراف النافذة المحسوبة عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على القطاع النفطي وفتح ما أمكن من الخطوط المتاحة للتصدير.
ويشير مقبل إلى ما رافق استيعاب الوديعة السعودية الأولى من شبهات فساد، وشبكات النفوذ التي تكونت طوال الأعوام السابقة كنتيجة واضحة لاستراتيجية تبنتها أطراف الصراع والتي تلاحظ بصورة واضحة في قطاع الصرافة وهيمنة شبكات التحويلات وشركات وصرافين طارئين على سوق الصرف والمضاربة بالعملة، إضافة إلى أن المساعدات الإغاثية هي الأخرى لم تسلم من السيطرة والاستيلاء والنهب والفساد في التعامل معها من قبل الأطراف المتصارعة.
وتستخدم بعض أطراف النزاع جزءا كبيرا من هذه المساعدات كما يؤكد الباحث الاقتصادي، في إطار أهدافها الخاصة بكسب ولاء أتباعها والمحافظة على شبكات تحالفاتها من خلال إعادة توزيعها على القيادات المحلية والشخصيات الاجتماعية والقبلية النافذة.
ويرى خبراء اقتصاد أنه يمكن الحصول على ريع النفط بسهولة نسبية، على الرغم من أنه لا يمكن بيع الصادرات قانونياً سوى عبر الحكومة المعترف بها دولياً، لكن على النقيض من ذلك، تعكس الإيرادات الضريبية حجم الاقتصاد الخاضع لسيطرة كل جانب، كما يرجح كذلك أن معظم الدخل المتولد محلياً ينفق على الحفاظ على التحالفات السياسية والقبلية رفيعة المستوى ومواصلة الحرب وإدارة الصراعات.
وفقاً للبيانات الرسمية، تواصل الحكومة المعترف بها دولياً إنفاق حوالي ربع ميزانيتها على دعم الكهرباء وهي نفس النسبة التي كانت عليها قبل النزاع.
وتمثل مدفوعات واردات الوقود لإنتاج الكهرباء استنزافًا كبيراً لاحتياطيات النقد الأجنبي في اليمن، إذ يميل دعم الكهرباء وفق توصيف البنك الدولي إلى إفادة الأسر الميسورة، وتشويه الأسعار، وتشجيع عدم الكفاءة، وتمكين الفساد. وفي الحقيقة كانت جهود إصلاح الدعم السابقة في اليمن قد قدمت على أنها مبادرات لمكافحة الفساد.
مخالفات الواردات
وأتاحت الواردات أيضاً للحوثيين فرصاً للتكسب والمحسوبية والريع، إضافة إلى ما أكدته لجنة خبراء الأمم المتحدة في العام 2020؛ أن عدداً صغيراً من الشركات تعمل كواجهات لواردات الوقود المصممة لإفادة الحوثيين، إضافة إلى تلقيهم للوقود كشكل من أشكال الدعم المالي.
كما يحصل الحوثيون على قدر كبير من إيراداتهم من ضريبة دخول البضائع إلى مناطقهم التي تشمل أكبر الأسواق والمراكز السكانية في البلاد، في حين عملت الحكومة المعترف بها دولياً على إعادة توجيه التجارة والتدفقات المالية المتجهة لمناطق الحوثيين إلى الموانئ والمؤسسات المالية التي تسيطر عليها.
ويرى الخبير الاقتصادي ياسين القاضي في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن الفساد مشكلة اليمن المزمنة منذ ما قبل الحرب وعلى ما يبدو ورثت أطراف الصراع هذه الثقافة التي كانت سائدة كنهج في إدارة الدولة وبناء تحالفاتها سابقاً بالنظر إلى علاقة أغلب الأطراف بصورة أو بأخرى بنظام الحكم الذي كان سائداً خلال العقود الثلاثة الماضية.
مشكلة مزمنة
ويعتبر الفساد مشكلة مزمنة في اليمن بالنظر إلى ما كان يجري سابقاً من ممارسات تصنف بالجسيمة من خلال الاستئثار بالفرص الاقتصادية وتخصيص المناصب السياسية ومنح تراخيص الاستيراد وتحويل الموارد إلى القادة الرئيسين من خلال فساد كشوف الرواتب العسكرية.
يرى خبراء اقتصاد أنه يمكن الحصول على ريع النفط بسهولة نسبية، على الرغم من أنه لا يمكن بيع الصادرات قانونياً سوى عبر الحكومة المعترف بها دولياً
في حين كانت معظم ممارسات الفساد والمحسوبية المباشرة وغير المباشرة تتركز في ريع النفط، حيث أعطى النظام السابق امتيازات للزعماء العسكريين والقبليين الذين لديهم القدرة على تهديد سلطة الدولة بشكل مباشر، وخلق حوافز قوية لسرقة الوقود والتهريب والرشوة والابتزاز وإساءة استخدام ميزانية الاستثمار العام.
وفي المقابل، يعاني اليمن من انقسام مؤثر وخطير على كافة الأصعدة، كخلاصة يستنتجها الخبير الاقتصادي اليمني ياسين القاضي، لأكثر من 8 سنوات من الحرب في البلاد، في ظل غياب أي تواجد فعلي لحكومة مركزية قوية ومحمية مع تعدد السلطات الحاكمة، ومصادرة سلطات الدولة من قبل كيانات طارئة تشكلت خلال سنوات الحرب منها فصائل، وكيانات انفصالية، وجهوية.
تأثير ذلك انعكس كما يلاحظ في البسط واحتكار ما هو متاح من الموارد العامة وارتفاع معدلات الفساد، وتزايد المخاطر ذات العلاقة ببيئة الإنتاج والاستثمار، حسب القاضي.
وحلت اليمن ضمن الخمس دول الأكثر فساداً في العالم بحسب التقرير السنوي لمؤشرات مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية للعام 2022، إذ جاءت في المرتبة 176 من بين 180 دولة.
وقالت منظمة الشفافية الدولية في مؤشر مدركات الفساد: "على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا تزال اليمن وسورية والصومال، في أسفل مؤشر مدركات الفساد، بسبب وجود أنظمةٍ ضعيفة، وتعاني من صراعات طويلة الأمد".
وأضاف البيان أن "الفساد يسلب الموارد من الدولة، ما يزيد من إضعاف قدرة الحكومات على الوفاء بدورها المتمثل في حماية الشعوب وفرض سيادة القانون".
وأشار البيان إلى أن الفساد المالي والإداري وعدم جدية مكافحته ساهم بشكل كبير في اندلاع الحرب الأهلية في اليمن قبل ثماني سنوات، مضيفاً "والآن، انهارت الدولة تاركةً ثلثي السكان بدون طعام كاف، ما يشكل واحدةً من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم".