لا تزال السلطات النقدية والمالية في الجزائر تبحث وتمحص وتقيس وتقارب المعادلات من أجل كبح التبخّر السريع للاحتياطي النقدي الأجنبي الذي لامس مستويات متدنية تاريخية، سواء عبر تعديل سياسة التجارة الخارجية أو عبر المساس بالعملة المحلية.
إذ أكد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أن تآكل احتياطي البلاد الذي يعد الممول الوحيد للتجارة الخارجية، خرج عن سيطرة السلطات، بسبب تواصل تهاوي عائدات النفط، ودخول جائحة كورونا على خط الأزمة لتدفع الحكومة نحو اللجوء إلى الاحتياطي في مواجهة ارتفاع الإنفاق العام.
وتستخدم الجزائر احتياطاتها من النقد الأجنبي لشراء واردات السلع والخدمات، التي تصل قيمتها إلى 45 مليار دولار سنوياً، وتحاول الحكومة خفض الإنفاق على الواردات لتخفيف الضغوط المالية الناجمة عن تراجع إيرادات النفط والغاز.
وقال الخبير الاقتصادي جمال نور الدين إن "ما تعيشه الجزائر حاليًا هو إفراز طبيعي لسنوات من التحايل والكذب مارستهما حكومات الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وسط إمعان الجهاز التنفيذي في الاعتماد على الريع النفطي من دون توظيف الموارد لدعم استثمارات جدية تؤمن نهوض الاقتصاد".
وأشار في حديث مع "العربي الجديد"، إلى "إنفاق السلطات على مدار عقدين نحو ألف مليار دولار على التنمية، قبل أن يكتشف الجزائريون الخداع بعد إحباط مشروع التمديد لبوتفليقة، حيث كشفت التحقيقات القضائية ملفات فساد جرى فيها تبديد مبالغ خيالية من المال العام".
وحذر الخبير الجزائري من الفترة المقبلة بالقول "لا ينبغي النوم في العسل، فاحتياطات النقد الأجنبي آخذة في التراجع، ما سيضع البلد أمام خطر وصدمة حقيقية، إن لم تبادر الحكومة بمخطط استباقي".
وقررت الحكومة شد حزام التجارة الخارجية وتجميد استيراد العديد من المنتجات والخدمات، لرفع الضغط عن الخزينة العمومية والاحتياطي، وهو ما سمح بتخفيض فاتورة الواردات 10 مليارات دولار السنة الماضية. وفي المقابل تهدف الحكومة الجزائرية إلى رفع صادرات البلاد خارج النفط إلى 5 مليارات دولار في نهاية السنة الحالية، وذلك من خلال دعم عمليات تصدير المنتجات الزراعية والإلكترونية والخدمات عبر إقرار إعفاءات جمركية ودعم النقل البحري.
واعتبر المحلل الاقتصادي فارس مسدور، أن "احتياطي البلاد من العملة الصعبة بحجمه الآن لا يغطي سوى 11 شهراً من الواردات، فبعملية حسابية نجد أن الجزائر مضطرة الى سحب 22 مليار دولار لسد العجز الذي تسجله الخزينة العمومية، يضاف إليها 37 مليار دولار معدل ما تستورده الجزائر سنويا".
وأضاف الخبير الجزائري في حديث لـ "العربي الجديد" أن "تأمين الاحتياطي للواردات لمدة 11 شهرا يعد اقتصاديا أمرا مريحا نسبيا مقارنة بدول أخرى في الجوار، لكن المشكل يكمن في أن الجزائر لا تتحكم في مصيرها حيث لا يمكنها ضمان استمرار ارتفاع أسعار النفط فوق المستويات الحالية ولا يمكنها التحكم في حجم وارداتها".
ولجأت الحكومة تحت ضغط تبخر الاحتياطي إلى تعويم العملة المحلية (الدينار)، لكبح فاتورة الواردات من جهة، وحماية الاحتياطي من التبخر السريع، بالإضافة إلى امتصاص جزء من التضخم المنتظر أن يصل إلى 4.4 في المائة. وعاود الدينار الجزائري سلك المنحى التراجعي أمام العملات الأجنبية، منهياً بذلك مرحلة الاستقرار التي عاشها منذ مطلع مارس/ آذار.
وسجل سعر الصرف في آخر التعاملات الرسمية 133 ديناراً مقابل الدولار الواحد، بعد التراجع التاريخي المسجل في 12 مارس/ آذار حين سجل 134 دينارا للدولار. وحالياً تبلغ قيمة صرف العملة المحلية في السوق الموازية 178 ديناراً لكل دولار، و210 دنانير مقابل اليورو.
فيما سجل سعر صرف العملة المحلية الجزائرية في بداية الأزمة النفطية، منتصف 2014، حوالي 83 دينارا لكل دولار أميركي. وفي السياق قال المستشار الحكومي والخبير الاقتصادي عبد الرحمان مبتول إن "الدينار تراجع بواقع 8.3 في المائة مقارنة بنهاية 2020، وبعملية حسابية بسيطة نضيف حجم التراجع أو "التعويم" حتى نكون أكثر دقة، لحجم التضخم البالغ 4 في المائة، فنجد أن معدل الأسعار ارتفع بواقع 11 إلى 12 في المائة أخيرا، أي بطريقة أخرى رواتب العمال تراجعت بـ 8.3 في المائة في المقابل غلاء المعيشة ارتفع بـ 11 في المائة، إذن في الحقيقة المواطن هو من يدفع ضريبة حماية الاحتياطي".
وأضاف الخبير الجزائري في حديث مع "العربي الجديد" أن "الحكومة القادمة المنبثقة عن البرلمان المقبل ستكون أمام معادلات اقتصادية صعبة، وهي حماية الاحتياطي دون المساس بالدينار أكثر وتهديد قدرة المواطنين الشرائية، أيضا على الحكومة المقبلة إيجاد الحل لمشكل آخر وهو ضمان تموين الأسواق بالسلع والمواد واسعة الاستهلاك المستوردة مع تخفيض فاتورتها كالقمح والحليب والسكر، وهي معادلة صعبة في الحقيقة".