حرب غزة ومستقبل العلاقات الاقتصادية التركية الإسرائيلية

17 نوفمبر 2023
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يزور مرضى السرطان من الفلسطينيين في تركيا (Getty)
+ الخط -

"أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي"... تنطبق هذه المقولة إلى حد كبير على ردات الفعل التركية تجاه العدوان على غزة، والتي تأخرت كثيراً، ثم أتت باهتة وأقل كثيراً من المأمول والمتوقع لدى شرائح عريضة من جماهير الأمة الإسلامية التي كانت تعول كثيراً على الموقف التركي، إلى أن خرج الرئيس رجب طيب أردوغان بتصريحات قوية وصادمة للاحتلال أكد فيها أن حركة حماس ليست منظمة إرهابية، وأن غزة أرض فلسطينية وعلى واشنطن تقبّل ذلك، بل ووصف إسرائيل أول من أمس الأربعاء بأنها "دولة إرهابية" واتهمها بارتكاب "إبادة جماعية" وجرائم حرب وانتهاك القانون الدولي في غزة. وفي وقت سابق وصف ما يجري في غزة بأنه ليس حربا بل "إبادة جماعية".

وتقارن الذاكرة الشعبية في العالم الإسلامي بين الموقف التركي الإيجابي في التعاطي مع حصار غزة عام 2010 حينما اشتبكت تركيا دبلوماسياً بحدة مع إسرائيل، الأمر الذي توج بتوجيه تركيا السفينة "مرمرة" لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، وهو الإجراء الذي واجهته إسرائيل بقصف إجرامي أودى بحياة 10 أتراك وإصابة 56 آخرين، وبالطبع أدى ذلك إلى قطيعة سياسية استمرت سنوات.
ومن المؤكد أن ظروف تركيا اليوم تختلف كثيراً عن مثيلاتها خلال العدوان السابق، حيث كانت تمتلك الكثير من أوراق الضغط، ولعبت دور الوسيط في أكثر من ملف إقليمي ودولي، علاوة على صلابة اقتصادية تشير إليها قفزات ملحوظة لمؤشرات الاقتصاد الكلي، وارتفاع مشهود لجودة حياة المواطنين الأتراك، وكلها عوامل انقلبت تماماً خلال الفترة الحالية، خاصة بعد ظروف الزلزال المدمر الذي ضرب ثلثي مساحة الدولة تقريباً في فبراير/ شباط الماضي، وحالة الاستقطاب الحادة التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي أججت فيها المعارضة العنصرية ضد الأجانب، ولعبت بورقة الإسلام السياسي الذي تنتمي إليه حركة المقاومة في غزة، واستغلت المعارضة في ذلك الارتفاع المستمر في معدلات التضخم والتي أثرت سلبياً بشدة في جودة حياة المواطنين.

موقف رسمي متأخر

بداية يجب التأكيد أن المقصود بالموقف التركي هو الموقف الرسمي المعلن من خلال القنوات السياسية والدبلوماسية والذي وُصف بالباهت والمتأخر كثيراً، قبل أن يقوى ويتصاعد في الأيام الماضية، الأمر الذي فسره محللون بمحاولة تركيا لعب دور الوسيط، دون أن تتكبد خسائر سياسية مؤثرة جراء مواقفها، خاصة في ظل تصاعد مستوى العلاقات مع إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الدعم للقضية الفلسطينية.
الموقف الشعبي التركي كان على مستوى الحدث، فما بين مظاهرات مليونية، وتعبئة جماهيرية لمقاطعة منتجات وسلع الكيان، والمبادرة بحشد وإرسال كميات كبيرة من المساعدات الغذائية والطبية، عبر مؤسسات العمل الخيري التركية، وقيام معظم الولايات بحظر شراء منتجات شركات محلية داعمة لإسرائيل.
وقد أعلن وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة أنه جرى منح الإذن بدخول سفينتين تركيتين إلى الموانئ المصرية، لنقل المستشفيات الميدانية وسيارات الإسعاف المخصصة لعلاج الجرحى في غزة. وأرسلت تركيا حتى ظهر يوم الأربعاء، 10 طائرات إلى مصر، محمّلة بـ 230 طنا من المساعدات الإنسانية لغزة، إلى جانب إرسالها كوادر طبية أيضاً.

كما وصلت إلى ميناء العريش المصري، سفينة تركية وعلى متنها معدات لبناء 8 مشافٍ ميدانية، و20 سيارة إسعاف، و660 طنا من المساعدات الإنسانية المختلفة، ضمنها 50 حاوية مستلزمات طبية.
عموماً فقد تصاعد الخطاب السياسي التركي تجاه الحرب، حيث أعلن رجب طيب أردوغان أن حماس حركة مقاومة وليست منظمة إرهابية، وحثّ على وقف فوري لإطلاق النار، ثم طالب إسرائيل عدة مرات بـ"وقف هذا الجنون فوراً"، و"وضع حد لهجماتها"، ثم استدعت أنقرة سفيرها شاكر أوزكار تورونلار لدى تل أبيب للتشاور، مبررة ذلك بعدم سماح إسرائيل بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل دائم ومتواصل، مع الأخذ بعين الاعتبار الكارثة الإنسانية في غزة.
هذا التصاعد في لهجة الخطاب والفعل التركي نحو العدوان الهمجي على غزة أثار العديد من الأسئلة بشأن مستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية بصفة عامة، والاقتصادية منها على وجه الخصوص، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الداخلية التركية والتي تسببت في تهاو مستمر لليرة، والفشل في كبح جماح التضخم المحلي، على الرغم من الارتفاعات القياسية لسعر الفائدة على الليرة خلال الأشهر السابقة.

تنامي العلاقات الاقتصادية رغم التراشق

منذ سنوات طويلة تسير العلاقات التركية - الإسرائيلية على مبدأ "فصل الاقتصاد عن السياسة"، فعلى الرغم من التراشق السياسي اللاذع والذي بلغ حد القطيعة بعد الاعتداء على السفينة مرمرة، إلا أن العلاقات التجارية شهدت تنامياً ملحوظاً، فبينما بلغت الصادرات التركية لإسرائيل 2.4 مليار دولار عام 2011 تصاعدت لتبلغ 4.7 مليارات عام 2020، كما بلغت واردات تركيا من إسرائيل 1.5 مليار دولار في عام 2020.
ثم قفزت التجارة بينهما من 6.5 مليارات دولار عام 2020 إلى 10 مليارات دولار بنهاية العام الماضي، وبذلك فإن حجم التبادل التجاري حقق نمواً بأكثر من 52% في الفترة بين 2013 و2021 ولا يزال مرشحاً للتصاعد بصورة كبيرة، لا سيما في ظل الاتفاقيات الجديدة. ووفقاً لوزارة الخارجية التركية، تعمل أنقرة على زيادة حجم التجارة الثنائية بين البلدين إلى 15 مليار دولار. كما ارتفع عدد السياح الإسرائيليين في تركيا إلى أكثر من 631 ألفاً، بزيادة خمس مرات ونصف مقارنة بالعام السابق، وفي 2022، قالت وزارة النقل الإسرائيلية إن إسرائيل وتركيا ستوسعان حركة الطيران الثنائية، بموجب اتفاق طيران جديد، هو الأول بينهما منذ عام 1951.

وخلال الأشهر الأخيرة أعلن عن اتفاق لنقل الغاز الإسرائيلي عبر الأراضي التركية كبديل لخط إيستميد الذي يمر عبر الأراضي اليونانية والقبرصية والذي تواجهه الكثير من العقبات التكنولوجية والاقتصادية، كما أبرمت تركيا مع إسرائيل اتفاقيات للتنقيب المشترك عن الغاز في البحر المتوسط.
ويؤكد هذا التصاعد في أرقام التجارة الخارجية والسياح والاتفاقيات بين الجانبين الحرص على الفصل الحاد بين العلاقات الاقتصادية والسياسية، وربما يبرر ذلك جزئياً ما وصف بالتأخر في ردة الفعل التركية تجاه عدوان إسرائيل الغاشم على قطاع غزة.

الأوضاع الحالية قد تتطور مستقبلاً

يبدو الموقف التركي متصاعداً بعقلانية تجاه العدوان، وأنه يأخذ في الاعتبار الظروف الاقتصادية الداخلية، ولكن مع التصميم الإسرائيلي على الثأر لكرامة جيشها المبعثرة على حساب المدنيين العزل. ومع استمرار قصفها الجوي للمستشفيات ومدارس ومخيمات الإيواء، فإن الموقف التركي مرشح للتصاعد إلى حد كبير، وربما يؤثر على العلاقات الاقتصادية.
وقد كتب أردوغان مغرّداً بالعربية "نقدم لفلسطين ولغزة أكثر بكثير مما يمكن الإعلان عنه"، وهو الأمر الذي يؤكد أن جهوداً تبذل بهدوء مراعاة للأوضاع الداخلية والدولية. وفي هذا السياق، أعلنت بلديات كبرى في تركيا حظر بيع وتوزيع منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل في المرافق التابعة لها، حيث نشرت بلديات أرضروم وأغري وطرابزون وأوردو وغازي عنتاب وشانلي أورفة وإيلازيغ بيانات منفصلة، في إطار حملة المقاطعة، وأدانت البلديات التركية في بياناتها ممارسات إسرائيل و"الجرائم ضد الإنسانية" التي ترتكبها بحق المدنيين الفلسطينيين بقطاع غزة منذ أيام، وهو إجراء لا يمكن حدوثه إلا بعد موافقة القيادات السياسية.
ربما تأخر الموقف التركي وبدأ ضعيفاً في بداية الأمر، ولكن لا شك أنه موقف متصاعد وليس شرطاً أن تستمر العلاقات الاقتصادية على حالها، كما في حالات سابقة، خاصة في ظل السعار الإسرائيلي غير المسبوق، والنجاح المدوي للمقاومة الباسلة، والتعري الغربي الأميركي الكامل عن القيم والأخلاقيات الإنسانية التي لطالما أوهمونا باحترامها، بالإضافة إلى تنامي المواقف الجماهيرية حول العالم وخاصة في الداخل التركي، وكلها أمور تشير على استحياء حتى الآن إلى توتر محدود في العلاقات الاقتصادية التركية الإسرائيلية، ولكن يبدو أنه مرشح للتصاعد.

المساهمون