حتى هذه اللحظة، معركة غزة العزة ما تزال رحاها تدور بوتيرة أشد، وقذائف أكثر ومقاومة أذكى، وببطولة عز نظيرها، والموقف العربي بمجموعه ما يزال على حاله، الضعيف المتراخي آكل جهد الأقوى الذي يقاوم إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً وتزويداً بالمساعدات الإنسانية.
وبعد زيارة أنتوني بلينكين وزير الخارجية الأميركي للمنطقة، ومرور سبعة وتسعين يوماً على بدء المعركة، فإن أفق انفراجها وعودة المدافع والطائرات إلى جحورها ما تزال مستبعدة في القريب، وملبدة بالغيوم الداكنة.
إذن فقد وقفت الولايات المتحدة خلف إسرائيل، والشيء الوحيد الذي جاءنا به بلينكن للمنطقة هو تأكيده على ترك المقاومة تحارب وحدها، والحد من انتشار الحرب على جبهات أخرى، وللتأكيد على أن الولايات المتحدة تدفع باتجاه إنهاء حركة حماس بالذات كقوة حاكمة في غزة سياسياً وعسكرياً.
وهذا ما يجعل المعركة في غزة مرشحة للاستمرار لفترة أطول. وقد بدأت الدول العربية الأخرى تسعى لإعادة التموضع لكي تتماهى مع ما يمكن أن يبدأ العمل عليه في اليوم التالي لانتهاء هذه الفاجعة الإنسانية، أو لكي تستغل فرصة هذه الحرب لكي تلملم أمورها الفالتة والمبعثرة.
وسوف أركز على الأردن الذي تحرك سياساً ودبلوماسياً وشعبياً في نسق واحد نحو موقف رافض لاستفادة إسرائيل من جرائمها النكراء، ولكي يضمن بقاء الفرصة سانحة لحل الدولتين.
ولكن الأردن بدأ يشعر أيضاً أن الحرب لها ثمن واضح على مجمل النشاط السياحي والتجاري. وقد تقدمت الحكومة بمشروع موازنتها للعام 2024 إلى مجلس النواب قبل أسبوعين، ولكنها لم تأخذ في الحسبان تأثير الحرب على تراجع النشاط السياحي والتجاري، وعلى امتناع الناس عن شراء البضائع الأجنبية للشركات الداعمة لإسرائيل.
وهذه توفر للخزينة ضرائب جمركية وضريبة مبيعات وضريبة دخل تصل إلى ما يقارب مليار دينار وأكثر في العام. وإذا زرت الفنادق فستراها خاليه من السياح العرب والأجانب، والأماكن السياحية والمطاعم والبازارات يجلس أصحابها على دكة خارجها ولا زبائن تدخل، ولا يتلقون من المارة في الشوارع سوى التحية.
وقد بدأ هذا يؤثر على مزاج الناس، وترى بعضهم يقود سيارته بغضب منفساً عن ضيق حاله وتكاثر الديون عليه. ولذلك، فإن البنوك بدأت تشعر بضيق الحال لأن كثيراً من زبائن القروض الاستهلاكية قد عجزوا عن السداد من رواتبهم المحدودة، فكثرت إعادة الجدولة واتخاذ وسائل تحوطية لاحتمالات النكوص عن السداد في المواعيد المتفق عليها.
وقد أدى تراجع الطلب الفعال إلى زيادة نسبة البطالة بمعدل طفيف، ولكنه ساهم في توسيع قاعدة الاقتصاد الأردني غير الرسمي. فكثير من العاطلين من العمل صاروا يلجؤون لتقديم خدمات بدون ترخيص مثل البيع على الطرقات، أو العمل في أماكن غير مرخصة، أو العمل في صف السيارات، أو تسليم وايصال الطلبات، أو قيادة تاكسي في سيارته غير المرخصة، أو العمل من البيوت وغيرها من الأمور.
ولكن الأنكى من ذلك طبعاً هو اتساع قاعدة العاملين في الاتجار بالمخدرات، وتقول الإحصاءات المتاحة لدى دوائر الأمن العام ومكافحة هذه الآفة إن الأردن لم يعد مجرد ممر لمرور المخدرات بل صار مقراً لها كذلك. ويقدر الخبراء منهم أن (25%) من حبوب الكبتاغون والإكستاسي و" توم وجيري" تستخدم في السوق الأردنية، والباقي تقوم العصابات المنظمة بإدخاله إلى الأسواق المجاورة في العراق والمملكة العربية السعودية.
والمصدر الأساس لهذه المخدرات هو سورية حيث تعم الفوضى على الحدود معها، وحيث تنتج هذه الحبوب وتباع. ولذلك ارتفعت كلف مقاومة الآفة التي لا تتقاعس القوات العسكرية والأجهزة الأمنية في محاربتها داخل الأردن. وأحياناً بضرب معاقلها وصناعاتها داخل الأراضي السورية، ويقدر أن قيمة تجارة المخدرات وتصنيعها وتوزيعها تصل إلى أكثر من 50 مليار دولار داخل القطر السوري.
ووفقاً للمصادر الأردنية، فإن هناك ثلاثة تطورات أساسية قد حصلت في الآونة الأخيرة وهي زيادة كميات المخدرات والتوسع في أنواعها المختلفة. والثاني استخدام الوسائل المتطورة في نقل هذه السلع عبر الحدود السورية الأردنية مثل الطائرات المسيرة أو الآليات الأرضية السريعة والمتطورة. وثالثها نوعية السلاح الذي يستخدمه المهربون والتي تعكس مدى التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي الموجود فيها.
وهذا يدل دلالة واضحة على أن تهريب المخدرات لم يعد عمل أفراد أو عصابات صغيرة يسهل القبض عليها. بل هذا يؤكد وفق الدراسات على المنشأة الإجرامية (Firm Criminal) أن هذه عصابات دولية ومنظمة وتستغل الوضع المائع داخل جنوب سورية. وقد أدى هذا إلى رفع الكلف على الموازنة العامة، ويقدر أن يرتفع العجز العام الحالي إلى أكثر من 2 مليار دينار أو ( 2.8) مليار دولار.
ويقول المسؤولون الأردنيون إن هذا الوضع على الحدود السورية صار مكلفاً جداً. وقد قدّرتُ أن استمرار الوضع الحالي الذي نجم عن أحداث سورية منذ عام 2011 وحتى الآن يكلف الأردن سنوياً ما قيمته حوالي (4 - 5) مليارات دولار ناتجة من رفع كلف إقامة اللاجئين السوريين غير المسددة من العالم، وزيادة كلف حماية الحدود من الإرهاب والمخدرات التي تتصاعد عاماً بعد عام، وعن الكلف الطبية، وعن ضياع الدخل من تجارة الترانزيت بين أوروبا والخليج والمارة عبر الأردن من سورية، وزيادة تهريب البضائع على الحدود الأردنية السورية، وفقدان فرص التصدير إلى سورية ولبنان، وهذه الكلف هي مجموع الكلف الإضافية المباشرة السنوية والفرص التي كانت متاحة وفقدها الأردن بسبب الوضع في سورية.
ومبلغ 4 مليارات دولار أو 2.8 مليار دينار التي تتحملها الخزينة الأردنية هو أكبر بحوالي 700 مليون دينار عن العجز المقدر للسنة المالية 2024. إذن لو عادت سورية إلى طبيعتها وقامت الحكومة السورية بفرض سيادتها على تلك المنطقة، فإن العجز في الموازنة الأردنية سوف يتقلص، أو أن الحكومة ستكون قادرة على توجيه أموال إضافية للحماية الاجتماعية والتي ارتفع الإنفاق عليها إلى أكثر من مليار دينار، أو لتمكن الحكومة من المساهمة في مشاريع استثمارية مشتركة بتلك القيمة ما يخلق فرص عمل للشباب الذين يعانون من نسبة تفوق العشرين في المئة من البطالة.
وقس على ذلك في الدول العربية الأخرى. والأردن يعاني من عجز كبير في السلع والخدمات مع الشقيقة مصر، والوضع مع العراق يمكن أن يكون أفضل، وكذلك الحال مع المملكة العربية السعودية رغم قوتها الاقتصادية. والأردن كبلد صغير يعاني من أخطر العجوزات في كل ما يمكن أن يسمى سيولة، وهي الماء والنفط والمال.
ولذلك فحرب الأردن لإنعاش اقتصاده ليست مقصورة على المواجهة مع إسرائيل المعتدية والمهددة والعاملة على تهجير أهلنا في غزة والضفة الغربية إلى الأردن، بل هناك تحديات أو تهديدات واضحة لأمنه ومنعته ناجمة عن الفوضى في بعض الدول المجاورة. ولا يجوز أن يبقى حال الأردن على هذا الوضع، فأي خلل في أمنه سيرتد على الدول المجاورة.
آن الأوان لكي نقوي علاقاتنا العربية على أسس إنقاذ الدول المفككة من المبعثرة، وإلا فإن الشرق الأوسط الجديد الذي يبشر به نتنياهو وشركاؤه قد يتحقق ولصالحهم.