لم تكشف السلطات الجزائرية بعد عمّا يتبع الإنذار الرئاسي الأخير، الذي كان وجهه الرئيس عبد المجيد تبون، مؤخراً، لأصحاب الأموال المكدسة من أجل استجلابها إلى الدورة الاقتصادية والمسالك البنكية الرسمية، لكنّ خبراء يطرحون سلة مقترحات قد تشجع هؤلاء على دفع أموالهم إلى البنوك.
وكان الرئيس الجزائري أطلق تحذيرات بخصوص الأموال المخزنة خارج البنوك من قبل أصحابها، وصفها بآخر إنذار لهم، ودعاهم إلى الإسراع في إيداعها، قائلاً: "أوجه آخر نداء للذين قاموا بتكديس الأموال في البيوت لإيداعها في البنوك".
وأشار إلى أنّ الدولة "قدمت ألف ضمان لحماية المواطن والاقتصاد الوطني"، كما أشار إلى "توفر بنوك تتعامل بالصيرفة الإسلامية"، مذكراً بمثال عن اكتشاف السلطات كمية كبيرة من الأموال قدرت بمليارات الدولارات، لدى عائلة واحدة.
اعتبِر هذا التصريح تهديداً واضحاً لأصحاب الأموال المكدسة، لكنّه لمح في الوقت نفسه إلى إمكانية أن تكون السلطات بصدد التحضير في أفق قريب لتدابير قانونية أو إجراءات، تحدد من خلالها قيمة قصوى للأموال النقدية التي يسمح بحيازتها، بخاصة مع مراجعة قانون النقد والقرض، ويفرض ذلك على أصحابها اللجوء إلى إيداعها في البنوك، أو في المصارف الإسلامية التي تعمل الحكومة على تشجعيها لجذب كتلة كبيرة من التجار وأصحاب الأموال الذين يرفضون التعامل مع البنوك الربوية.
ويؤكد خبراء اقتصاد لـ"العربي الجديد" أنّ معضلة الأموال المكدسة خارج البنوك والمصارف تأتي بتداعيات سلبية على المواطن أكثر من معاناة الدولة، بسبب عوامل التضخم التي تخلفها.
لكنّ الخبير الاقتصادي رياض حاوي يحمل الحكومة والنظام المالي في الجزائر مسؤولية دفع الجزائريين إلى تخزين أموالهم خارج البنوك، بسبب المصاعب التي يواجهونها في المعاملات البنكية وعدم توفر نظام بنكي سلس. وقال حاوي لـ"العربي الجديد" إنّ "المشكلة هي لدى القرار السياسي واللوائح التنظيمية وتخلف النظام المالي الجزائري في عدة مستويات، حتى مقارنة مع دول الجوار، المشكلة موجودة في دواليب البنك المركزي العاجز عن تكييف كثير من القوانين حتى مع متطلبات قانون المالية... ويجد الوزراء أنفسهم في تناقض، وبالتالي عاجزين عن تحديث القطاعات".
وأضاف: "يتعين على الدولة قبل أن تفكر في مطاردة الأموال المكدسة للمتهربين من الضرائب والذين يخشون الشفافية، أن تحل أولاً مشكلات البيروقراطية في النظام المالي بالنسبة للمواطن العادي، والذي يشكل الكتلة الأهم في التداولات المالية".
وتابع أنّ "هناك عجزاً لدى السلطات العمومية في تحديث وتطوير النظام المالي الجزائري وطريقة عمل البنك المركزي وتحرير سوق الصرف والسماح للبنوك العالمية ذات الخبرة بالوجود في السوق المحلي، وهناك ضعف في إدراك السلطات العمومية ضرورات تطوير النظام البنكي، ولذلك فإنّ مسعى إدخال الأموال إلى دورة المال العادية واستجلاب الأموال المكدسة، يتطلب بالأساس إصلاحاً جاداً وتحديثاً للنظام المالي".
لا أرقام رسمية حول حجم الكتلة النقدية خارج البنوك ومسالك الاقتصاد الرسمي في الجزائر، لكن الرئيس تبون نفسه كان قد قدر، خلال تنصيبه المجلس الاقتصادي والاجتماعي في سبتمبر/ أيلول 2021، "قيمة الأموال المكدسة في أروقة الاقتصاد الموازي الذي يختزن كتلة مالية كبيرة بأكثر من 90 مليار دولار".
ودعا حينها إلى إدخال هذه الكتلة في السلك الاقتصادي الرسمي واسترجاعها واستغلالها في تمويل المشاريع.
في عام 2016، حاولت السلطات تطبيق نظام التصريح الضريبي الطوعي، ليتمكن أصحاب هذه الأموال من دفعها إلى البنوك، ودفع ضريبة 7 في المائة فقط، من دون استقصاء مصدرها، وبعد انتهاء الآجال، تبين أنّ الحصيلة كانت ضعيفة.
ثم بدأ تطبيق حلّ آخر عام 2017، وهو القرض السندي، إذ جرى إصدار نوعين من السندات، الأول لمدة ثلاث سنوات بمعدل فائدة خمسة في المائة والثاني خمس سنوات بمعدل 5.75 في المائة، وكانت الحصيلة ضعيفة أيضاً، إذ جُمعت خمسة ملايين دولار فقط، ثم اتجهت الحكومة إلى تطبيق حلّ ثالث وهو الصيرفة الإسلامية، باعتبار أنّ كثيرين يرفضون التعامل مع البنوك الربوية، ما اعتبر حلاً لاستقطاب الأموال المكدسة.
في عام 2016، حاولت السلطات تطبيق نظام التصريح الضريبي الطوعي، ليتمكن أصحاب هذه الأموال من دفعها إلى البنوك
يعتبر الخبير في الشؤون المالية والصيرفة الإسلامية سليمان ناصر أنّ التصريح الأخير للرئيس تبون يؤكد أنّ مشكلة الكتلة النقدية خارج البنوك ما زالت قائمة.
وقال ناصر في تصريح لـ"العربي الجديد" إنّ "كلّ الحكومات السابقة عجزت عن إدخال الحجم الكبير من الكتلة النقدية الموجودة في السوق الموازية". وأضاف: "قد سببت الأموال المكدسة خارج البنوك صداعاً مزمناً لكل الحكومات السابقة، وطبقت معها العديد من الحلول، لكنها كانت كلها غير ناجعة".
وأوضح أنه من بين أبرز الحلول لمشكلة الأموال المكدسة، تطبيق الدفع الإلكتروني الإجباري، والذي كان مقرراً في قانون المالية 2017، على أن يُطبق بحلول 2020، وأُجّل مرة أخرى لعدم الجاهزية إلى 2021، ثم إلى منتصف 2022، قبل أن يتقرر تأجيل تطبيقه إلى نهاية عام 2023، وفقا لما جاء في قانون المالية التكميلي الأخير.
وقال ناصر: "أخشى أن يصل هذا الموعد من دون أن تكون الحكومة جاهزة لتطبيق الدفع الإلكتروني الإجباري، مشيرا إلى أنه يمكن البدء في التطبيق التدريجي لدفع فواتير المياه والكهرباء والوقود والهاتف والمساحات الكبرى للتسوق، لتعويد المواطنين على التخلص من استعمال الأوراق النقدية".