لم تتوقف معاناة السودانيين منذ اندلاع الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف شهر إبريل الماضي، لتأتي العقوبات الأميركية الأخيرة لتتطاير شظاياها على اقتصاد البلاد ومعيشة المواطنين والأسواق، رغم أن العقوبات تستهدف في ظاهرها شركات العسكر.
وزادت المخاوف في الأوساط الاقتصادية السودانية من أن تفاقم العقوبات الأميركية من أزمات السودانيين الذين يعانون من موجات غلاء فاحش وتدهور في قيمة العملة، بالإضافة إلى شح الغذاء وتفاقم البطالة بسبب توقف مئات الشركات والمتاجر عن العمل، بالإضافة إلى العصف بالعديد من القطاعات الأخرى، ومنها الزراعة والصناعة، في مناطق الصراع بين الطرفين.
وأكد مراقبون لـ"العربي الجديد" أن كلا من الجيش وقوات الدعم السريع سيستطيعان الالتفاف على العقوبات الأميركية، كما حدث في العقوبات السابقة، لكن الشعب السوداني هو من سيدفع الثمن، عبر مواجهته مزيدا من الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية.
عقوبات على الطرفين
أصدرت وزارة الخزانة الأميركية، يوم الخميس الماضي، عقوبات تستهدف شركات وكيانات تتبع للدعم السريع، وأخرى تحت سيطرة الجيش السوداني، بسبب انخراطها بشكل أو بآخر في القتال أو تحقيقها مداخيل مالية لدعم النزاع المسلح المستمر منذ أكثر من 9 أسابيع. وأعلنت في بيان فرض عقوبات على 4 شركات سودانية، لأن عائداتها المالية تسهم في دعم طرفي النزاع هناك.
وذكرت الوزارة أنها فرضت عقوبات على شركتين مرتبطتين بقوات الدعم السريع، وشركتين مرتبطتين بالجيش السوداني. وقال البيان إن الشركتين المرتبطتين بالدعم السريع هما: "مجموعة الجنيد" التي تعمل في مجال التعدين واستخراج الذهب في السودان ويسيطر عليها قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأخوه عبد الرحيم دقلو، وشركة "تريدف"، التي تتخذ من الإمارات مقرًا لها.
وقال البيان إنه تم فرض عقوبات على "منظومة الصناعات الدفاعية" التي تدعم الجيش وتتبعها مئات الشركات، وتقدر عائداتها بنحو ملياري دولار سنويًا، موضحا أنها تنتج الأسلحة الخفيفة والذخائر والمركبات العسكرية للقوات المسلحة السودانية.
بدوره، أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان "فرض قيود على التأشيرات ضد الأشخاص الذين يرتكبون العنف في السودان، لمحاسبتهم عن تقويض السلام والأمن والاستقرار في البلاد."
ارتدادات على الشعب
وحول الارتدادات الاقتصادية للإجراءات الأميركية، سارع سفير السودان في أميركا، محمد عبد الله إدريس، إلى التأكيد أن العقوبات التي فرضتها واشنطن يتضرر منها الشعب السوداني وليس الشركات السودانية.
وفي هذا السياق، قال عضو اللجنة الاقتصادية في تحالف قوى الحرية والتغيير، الاقتصادي كمال كرار، لـ"العربي الجديد"، إن العقوبات الأميركية على شركة الجنيد وأخرى تابعة للدعم السريع تتخذ من الإمارات مقرا لها، وشركتي منظومة الصناعات الدفاعية، وماستر تكنولوجي، اللتين تتبعان الجيش السوداني، غير مؤثرة بشكل كبير، لأن هذه العقوبات يمكن تفاديها، خاصة في مجال السلاح.
وقال: أميركا نفسها قالت إن ما يجري في السودان شأن داخلي، وهكذا وقف مجلس الأمن متفرجا، كما أن التصريحات الأميركية تطلق فقط لتبرئة الذمة، ولكنها لا توقف الحرب.
وأضاف: "في تقديري فإن بناء جبهة واسعة داخلية تضغط على الطرفين من أجل وقف الحرب، هي الخطوة الصحيحة وليس الاعتماد على الضغوط الدولية".
وقال موقع وزارة الخزانة الأميركية على الإنترنت إن الهدف من العقوبات على السودان هو قطع الموارد المالية الرئيسية والضرورية عن الدعم السريع والجيش، وحرمانهما من سداد رواتب الجنود وإعادة التسليح وإرسال التعزيزات وشن الحرب في السودان.
أزمات اقتصادية خانقة
وصف المحلل الاقتصادي، الأكاديمي بجامعة المغتربين بالخرطوم، محمد الناير، العقوبات بغير العادلة، شارحا ذلك بعدم منطقية اتخاذها قرار العقوبات في الوقت الذي تقوم فيه بدور الوسيط لإنهاء الحرب بمفاوضات جدة.
وأشار الناير، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى إمكانية ومنطقية فرضها لعقوبات في مواجهة شركات الدعم السريع وليس الجيش، لأن ذلك يؤكد عدم حياديتها ونزاهتها في الوساطة.
وأكد "عدم تحسّن الوضع الاقتصادي بالسودان عقب رفع العقوبات الأميركية عنه، ولا يزال محروما من التحويلات والتعاملات المصرفية مع المصارف العالمية"، موضحا أن تجديد أميركا لعقوباتها على السودان يضر وتؤثر على الشعب السوداني الذي يواجه أزمات اقتصادية خانقة وليس الحكام.
وزادت معاناة الموطنين المعيشية بسبب الحرب؛ إذ شهدت الخرطوم ومناطق الصراع شحاً كبيراً في المواد الغذائية، وسط ارتفاع في أسعار السلع في المتاجر والمولات.
كما تسببت الحرب المستمرة منذ أكثر من شهر ونصف الشهر في تعطل الإنتاج ونهب وحرق بعض المصانع والمحال التجارية والمصارف، الأمر الذي ساهم في تأزم ندرة الغذاء بالبلاد.
وظل السودان يعاني طوال السنوات الأخيرة، من قفزة نسبة الفقر إلى أرقام قياسية زادت بعد اندلاع الصراع العسكري في الخامس عشر من إبريل الماضي، إثر توقف الكثير من الأنشطة الاقتصادية وتدمير المنشآت الحيوية. ومن المرتقب أن تدفع العقوبات بمزيد من السودانيين في أتون الفقر، حسب خبراء اقتصاد، أكدوا أن نسب الفقر قفزت إلى أكثر من 80 بالمائة، في حين ما زالت الحكومة تعتمد في إحصاءاتها الرسمية على نسبة تبلغ نحو 46.5 بالمائة.
ومن جانبه، أكد الناير أن العالم بدأ يتشكل من جديد وتم تغيير المعادلة وصار هناك توازن اقتصادي في القوى بين الغرب من جهة وبين الصين وروسيا ومجموعة دول البريكس التي تنتمي لها الصين وروسيا، ما يعيد تغيير المعادلة الاقتصادية ويقلل من جدوى العقوبات الأميركية على السودان، داعيا الإدارة الأميركية إلى تغيير سياسة "العصا والجزرة" وترك التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
تباين الآراء
حول الطرف العسكري الأكثر تضررا من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على 4 شركات سودانية تتبع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يرى بعض المراقبين أن التأثير سيقع في مجمله على شركات الدعم السريع، بينما يرى آخرون أن أميركا لم تكن منصفة في عقوباتها، لأنها ساوت بين الجيش والقوة المتمردة.
ويسيطر قائد الدعم السريع حميدتي وشقيقه عبد الرحيم دقلو على أنشطة اقتصادية مختلفة، من بينها صناعة وتعدين الذهب عبر شركة الجنيد التي شملتها العقوبات الأميركية، وهي شركة قابضة تتخذ من الخرطوم مقرا لها وتشمل 11 فرعا متعدد الأنشطة.
وفي هذا الإطار، يقول المحلل الاقتصادي عبد الوهاب جمعة، لـ"العربي الجديد"، إن التأثير على شركات الدعم السريع أكثر فعالية من شركات الجيش الذي لا يتعاطى مع منتجات أميركية.
ويضيف: أكثر من 20 عاما لم يكن السودان يمتلك أسلحة أوروبية أو أميركية، وبالتالي فإن منظومة الصناعات الدفاعية تستخدم منتجات من روسيا والصين، ما يجعل العقوبات بلا فائدة على الجيش.
وأشار إلى أن التأثير أكثر على شركات الدعم السريع، خاصة شركة الجنيد، طالما أن الدعم السريع تصنّف بالمتمردة.
تصفية حسابات
يقول الباحث عبد الرحمن صبير، لـ"العربي الجديد"، إن عقوبات الولايات المتحدة على شركات الدعم السريع، تطاول فاغنر، إحد أقوى أذرع الجيش الروسي المساندة لقوات الدعم حاليا، وبالتالي سيتم تنفيذ عقوبات على روسيا نفسها بشكل غير مباشر، وهي تدخل ضمن الحرب والعقوبات التي تشنها أميركا والغرب على موسكو في إطار الحرب في أوكرانيا.
وأضاف: أميركا تجعل من السودان والحرب فيه، ميدانا لتصفية حسابات دون أن تبالي بالسودان، شعباً وحكومة، ودون أدنى اهتمام بالوساطة التي تتصدرها.
وتساءل: لماذا لا تبدي الحكومة السودانية إشارة ترحيب نحو روسيا وتشجيعها للتحرك من أجل مساندتها في مختلف المجالات لمواجهة التمرد العسكري لقوات الدعم، مشيرا إلى أن روسيا عضو دائم في مجلس الأمن، ولديها حق الفيتو، الذي قد يخدم السودان كثيرا.
ومن جانبه، يقول المحلل السياسي عبدالله إسحاق، إن العقوبات الأميركية الأخيرة تمثل المرحلة الأولى، ومن المرتقب أن يتواصل فرض مزيد منها خلال الفترة المقبلة، لتطاول شركات أخرى تابعة للجيش والدعم السريع، إلى أن تضع الحرب نهايتها ويتم التحول الانتقالي وتكوين الحكومة المدنية القادمة.
وحول مدى تأثير العقوبات الأميركية على الطرفين المتصارعين وحزب المؤتمر الوطني المحلول، يرى إسحاق أنها عقوبات ذكية وقاسيه لها آثار كبيرة، ستحد أولا من نشاط حركة قيادات حزب المؤتمر الوطني ثم من حركة قيادات الجيش وقوات الدعم السريع ثانيا، حسب تعبيره.
وفي المقابل، يؤكد الصحافي السوداني بلة علي عمر، أن أميركا تستهدف الصناعات الدفاعية لكسر شوكة الجيش وتدمير صناعته الحربية.
إلا أنه يؤكد أن الجيش السوداني لن يتأثر كثيرا لعدم اعتماده في التسليح على أميركا، ما سيقلل من آثار العقوبات عليه.
وقال موقع الخزانة الأميركية إن شركة منظومة الصناعات الدفاعية هي الكبرى في هذا المجال بالسودان، مضيفا أنها تصنع عدة أنواع من الأسلحة الصغيرة، والأسلحة التقليدية، والذخيرة، والعربات العسكرية لفائدة الجيش السوداني.
وأشار الموقع كذلك إلى أنها تستخدم نظاما معقدا لإخفاء امتلاكها لتلك الفروع، وللحصول على خطابات الائتمان من بنك السودان المركزي.
وأوضحت الوزارة الأميركية أن منظومة الصناعات الدفاعية لا تكتفي فقط بعدم تسديد القروض التي حصلت عليها من خلال خطابات الائتمان تلك، بل تستخدمها كذلك في التنافس بشكل غير عادل مع الشركات المدنية التي لا تحصل على الامتيازات المالية نفسها.
إضافة إلى ذلك، أشار الموقع إلى أن منظومة الصناعات الدفاعية لا تساهم بشكل شبه كلي في مداخيل السودان، فضلا عن استفادتها من بعض الإعفاءات الضريبية.