استمع إلى الملخص
- تزامنت تصريحاته مع مراجعة أسعار خدمات الإنترنت والاتصالات ورفع أسعار المحروقات، مما يزيد الضغوط على المصانع والمستهلكين في ظل تضخم بلغ 26.4%.
- تعكس تصريحات مدبولي توجه الحكومة نحو "اقتصاد حرب"، مبررة الأزمات الاقتصادية بظروف الحرب، مما يثير القلق حول المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
حوّل رئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي مقابلته الأسبوعية معالموازنة الإعلاميين إلى منصة لتوجيه رسائل قاسية للشعب، يمهد بها لرفع أسعار سلعة أو خدمات حكومية. في لقائه الأخير، أراد أن يلفت نظر الناس إلى أن الحرب على غزة ولبنان أدت إلى رفع أسعار النفط بالأسواق العالمية إلى ما فوق 80 دولارا لبرميل النفط، وفي حال اتساعها سيكون من الصعب ليس رفع الأسعار فقط ولكن توفير الكهرباء والغاز.
لم ينتبه كثيرون إلى كلمة" مدبولي" خاصة أن حكومة مصر استبقت أحداث الحرب المستمرة منذ عام، عند وضع حسابات الموازنة العامة للعام المالي 2024-2025 على أساس تقديرات لسعر النفط عند 85 دولارا للبرميل، وبذلك تخطت كل المستويات المتشائمة، قبل أن تمتد الحرب لكل المنطقة.
قوبلت الرسالة بصمت تام من الجمهور، الذي انشغل برسالة أخرى صدرت قبل تصريح رئيس الوزراء بساعات، من رئيس جهاز مرفق الاتصالات، الذي قال: "حان الآن وقت مراجعة أسعار خدمة الإنترنت وتكلفة الاتصالات"، وإذ بعدها بساعات تسابق شركة الاتصالات المملوكة للدولة منافسيها على رفع تكلفة الخدمة، وهي الزيادة الثالثة خلال العام الجاري.
انتبه أصحاب المصانع في مصر لما يمهد له رئيس الوزراء من توجه لرفع أسعار المحروقات للمرة الرابعة خلال العام، خاصة أسعار المازوت والسولار للمصانع، عدا ما ستقوم به لجنة التسعير التلقائي للوقود من رفع لسعر البنزين والكيروسين والغاز الطبيعي، قبل نهاية العام. هؤلاء يدركون صعوبة الخيار الذي يدفعهم إليه رئيس الوزراء، بعد أن تسبب رفع سعر المحروقات والكهرباء في عودة معدلات التضخم للارتفاع شهريا، ليبلغ 26.4%، ليضغط بشدة على مديري الشركات ويغيظ الأغنياء من أصحاب الملايين قبل الفقراء الغارقين في مستنقع الغلاء، مع ذلك يظل الصمت سيد الموقف، فلا تسمع إلا أنينا يبثه الجميع في لقاءاتهم الخاصة، ويتسرب القليل منه عبر فضاء الإنترنت على وسائل التواصل الاجتماعي.
يبشر رئيس الوزراء بأن معدل التضخم قد لا ينخفض بسرعة، بسب الحرب التي تعطل امدادات الطاقة، في رؤية معاكسة لما كان يعلنه منذ شهر، حينما شدد على قدرة حكومته على خفض معدلات التضخم، والحد من غلاء الأسعار.
تخفي تصريحات "مدبولي" ما يبطنه، فلم يعد الأمر متعلقا بأسعار الطاقة وعودة الكهرباء للانقطاع عن البيوت والمصانع في مصر فحسب، بل بكافة السلع والخدمات.
قال رئيس الوزراء أنه في حال اتساع دائرة الحرب ستضطر الدولة للتعامل مع "اقتصاد حرب". لم تقدم كلمة رئيس الوزراء كثيرا، فحقيقة الأمر أن حالة الحرب مفروضة على الشعب منذ سنوات طويلة، تارة باسم الحرب على الإرهاب وأخرى متعلقة بتوترات الحرب في ليبيا وسورية ثم غزة والسودان.
دفع الناس للعيش على حافة جرف هار في حالة خوف من الحرب، لا يستهدف إلا تبرير فشل الحكومة في حل الأزمة الاقتصادية وترك الناس عالقة في مشاكلها اليومية مع الغلاء والتضخم وعدم وجود السلع، وفرص العمل، والأهم فرض الصمت على الجميع.
يسير "مدبولي" على نفس المنهج القديم، الذي وضع الشعب تحت قيود الاستبداد، في ستينيات القرن الماضي، حيث عهد تأميم للثروات، والتجارب العسكرية الفاشلة، مبررا اغتصابه للملكية الخاصة باسم الحرب على الإقطاع والقضاء على الاستعمار وأعوانه، وبعد أن خرج المستعمر بجسده، وأعاده النظام عبر معاهدات مصالحة مع الدولة الصهيونية، أصبح الصمت هدفا حتى لا يحاسب الشعب السلطة على الانتكاسات العسكرية والهزائم التي لحقت به، وجعلت منه أضحوكة بين شعوب المنطقة.
"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، هكذا فرض على الناس عدم الشكوى من مرارة الهزيمة والعيش تحت وطأة سلطة طائشة، وجاء الوقت ليتكرر الشعار من جديد، لعشر سنوات متصلة، وكلما عبر الناس عنق الزجاجة أعيدوا فيها ليظلوا بالكهف المظلم، بمبررات جديدة، تؤتي نفس النتيجة، دمارا للاقتصاد وكبتا للحريات، ووضع أصحاب الرأي والخبرة، في قوائم سوداء.
أسكت صوت المعركة في الماضي أفواه المصريين، الذين كانت توفر لهم السلطة الوظيفة الحكومية والتعليم والعلاج المجاني، وتتحمل أغلبية تكلفة الخبز والمعيشة، بينما كبت الأصوات في الحاضر مقرون بتحميل المواطنين أعباء الكوارث التي تصنعها الحكومة بالاقتصاد، والاقتراض لإقامة مشروعات عديمة القيمة، وعدم توجيه ثروات الدولة لتنمية المشروعات الصناعية والإنتاجية، التي تساعد في توفير فرص العمل وتحقيق معدلات تنمية تفوق نمو السكان والتضخم، بما يراكم الثروة وقدرة البلاد على مواجهة الأزمات الطارئة.
ظل الصمت له مقابل مادي لدى الناس، وبالنسبة للسلطة فالسكوت علامة الرضا. نشأ تحالف ضمني، قائم على المنفعة المتبادلة بين طرفين كل منها يسعى للاستفادة وإبعاد الطرف الآخر عن مساره. لم يبحث كثيرون عن خطورة الصمت مقابل السكوت، لعقود إلى أن تراكمت الكوارث، ونشأ جيل غير قادر على الصمت وقبول العقد الاجتماعي الذي همش وجودهم وأخرجهم مبكرا من المعادلة غير المتزنة بين الشعب والسلطة.
جاءت ثورة 25 يناير لتعين هندسة المعادلة، حيث أصبح الصمت عارا والساكت على الحق شيطانا أخرس، لكن سرعان ما استعادت الدولة العميقة قوتها لتعيد تسيير الاقتصاد للسير في الاتجاه المعاكس، وتفرض الصمت مقابل الأمن، دون أن تترك مساحة لمضغوطين لإبداء رأيهم في ما يحدث حولهم من تبديد للثروات وما يهدر من طاقات بشرية واقتصادية.
لم يعد رئيس الوزراء يلمح في بياناته برفع الأسعار التي تسير في اتجاه واحد صعودي دائم، ولكن مقرونة بتصريح مباشر بأن المرحلة المقبلة، لن تشهد فقط ارتفاعا في الأسعار وإنما قد لا تكون الدولة قادرة على ضمان انتظام الكهرباء والغاز، دون أن تنقطع في حالة اتساع دائرة الحرب بالمنطقة.
هذه التصريحات المخيفة من كبار المسؤولين في مصر لم نر مثلها في دولة الاحتلال التي تحارب دول المنطقة في كل اتجاه، حيث تدبير احتياجات المستوطنين في هدوء وتسعى وسط الحرب إلى طمأنتهم ودفعهم إلى السكينة، كي تضمن عدم فرارهم من أرض المعركة. بلغ بحكومة الاحتلال بأن تعهدت لسفن الشحن الدولية، التي تدخل الموانئ المحتلة في يافا وإيلات وغيرها، بأن تتحمل الحكومة أية خسائر ناتجة بالسفن والشحنات عن العمليات العسكرية داخل حدودها.
رسالة الطمأنينة، تقلل خسائر المعتدي، بينما رسالة التخويف والترهيب، تدفع أصحاب الأموال إلى الهرب من مصر، وتثير الفزع والروع في قلوب الناس من مستقبل غامض يفرض فيه الصمت المؤدي إلى الموت، حيث لم يعد في الناس قدرة على تحمل أعباء الحياة.