يعيش اليمنيون أسوأ أيامهم منذ بداية الحرب الدائرة في البلاد قبل أكثر من ستة أعوام. الأزمة الإنسانية تستمر بالتفاقم من إيجاد حلول للتخفيف من وطأتها، في ظل ترد معيشي كبير ومصير مجهول لرواتب الموظفين المنقطعة للعام الخامس على التوالي.
هذه الأزمة القاسية، شكلت ما يشبه الثقوب السوداء التي تهضم رواتب اليمنيين وتزهق أي محاولة للخروج من قعر معيشي يزيد عمقاً.
في عودة إلى الأسباب، قررت الحكومة اليمنية في مثل هذا الشهر في سبتمبر/ أيلول من العام 2016، نقل إدارة عمليات البنك المركزي اليمني من العاصمة صنعاء إلى عدن التي اتخذت منها عاصمة مؤقتة لها، وهو ما أدى إلى توقف صرف رواتب نحو 1.2 مليون موظف مدني في اليمن يعيلون أسرا يتجاوز عددها أكثر من 7 ملايين فرد.
قررت الحكومة نقل إدارة عمليات البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، وهو ما أدى إلى توقف صرف رواتب نحو 1.2 مليون موظف يعيلون أسرا يتجاوز عددها أكثر من 7 ملايين فرد
لم يتوقف الأمر عند رواتب الموظفين المدنيين، إذ بدأ الشرخ في النظام المالي والمؤسسات العامة والقطاع النقدي والمصرفي، واستمر بالتوسع طوال خمس سنوات، ليصل الصراع الاقتصادي والمصرفي بين الأطراف المتناحرة في البلاد إلى ذروته ليساهم في تفجير أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم.
ومع انحسار الصراع في هذا الجانب، انكمش النشاط الاقتصادي بأكثر من 50 في المائة وفق الأرقام الرسمية، وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي بحوالي الثلثين مقوماً بالدولار.
كما طوى الفقر 80 في المائة من السكان وتآكلت معه نسبياً الطبقة المتوسطة وخاصة شريحة الموظفين المعتمدة على مرتبها الحكومي كمصدر رئيس للدخل، وارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات قاسية.
تدهور متعدد الأقطاب
وألقت الأزمة الإنسانية والمعيشية وتوقف رواتب الموظفين بتبعات قاتمة على اليمنيين، فقد تدهورت العملية التعليمية وانهارت معظم الخدمات العامة من صحة وكهرباء ومياه، وتوسعت عملية التسول بشكل كبير، وتضخمت عمالة الأطفال، إذ دفعت هذه المعاناة والأزمات المتلاحقة الكثير من الأسر بجميع أفرادها إلى سوق العمل خاصة الموازي منه، وتوفير مبالغ مالية أو مؤن غذائية بأي طريقة ممكنة.
وفي أول إحاطة لمجلس الأمن وصف المبعوث الأممي الجديد إلى اليمن السويدي، هانس غروندبرغ، الحرب الاقتصادية من جانب كافة الأطراف بـ"المدمرة"، مؤكداً على ضرورة ضمان حرية حركة الناس والسلع من اليمن وإليه وفي داخله، ورفع الحصار عن مدينة تعز وفتح مطار صنعاء أمام الحركة التجارية وتخفيف القيود المفروضة على استيراد الوقود والسلع عبر ميناء الحديدة.
ألقت الأزمة الإنسانية والمعيشية وتوقف رواتب الموظفين بتبعات قاتمة على اليمنيين، فقد تدهورت العملية التعليمية وانهارت معظم الخدمات العامة من صحة وكهرباء ومياه
في السياق، يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة صنعاء نبيل ناشر لـ"العربي الجديد"، أن رواتب اليمنيين تعد الدخل الرئيس لأكبر شريحة عاملة في البلاد، باعتبار الحكومة منذ عقود المشغل الأساس للعمالة في اليمن، وما قام به طرفا الصراع بمثابة جريمة بحق الإنسانية وفق كل المواثيق والأعراف الدولية.
ويرجح ناشر أن 40 في المائة من الأسر اليمنية تعتمد على الراتب الحكومي والتقاعدي على التوالي كمصدر رئيسي للدخل، إضافة إلى اعتماد سلسلة من الأعمال والمهن على هذا الشريان الوحيد الذي كانت آثاره تشمل مختلف القطاعات الاقتصادية والمهنية وإنعاش الحركة التجارية في الأسواق، هذه الأخيرة كانت ترتكز على ما يتم إنفاقه من رواتب حكومية فيها بنسبة تزيد عن 65 في المائة.
وتكشف بيانات رسمية اطلعت عليها "العربي الجديد"، أن عدد الأسر المتضررة من توقف المرتب الحكومي والتقاعدي يتفاوت على مستوى المحافظات، حيث كانت أبين وعدن أكثر المحافظات التي يعتمد سكانها على المرتب الحكومي والتقاعدي. بينما كانت الحديدة والبيضاء أقل المحافظات اعتمادا على الوظائف العامة.
تصنف الحديدة ضمن أشد المحافظات التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، والأقل حظاً في الوظائف العامة، وهو ما جعلها أكثر المحافظات التي يعاني سكانها من الفقر المدقع والبطالة منذ عقود
وتصنف الحديدة ضمن أشد المحافظات التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، والأقل حظاً في الوظائف العامة، وهو ما جعلها أكثر المحافظات اليمنية التي يعاني سكانها من الفقر المدقع والبطالة منذ عقود.
ويؤكد الباحث الاقتصادي صادق الحميدي، أن الاقتصاد اليمني خضع لسلسلة من عمليات النهب من قبل طرفي الصراع، لتمويل حربهما وإطالة أمدها بعد مرور ست سنوات عليها، بدأت بتعويم الوقود وتشكل السوق السوداء وإغلاق ميناء الحديدة، ومن ثم إبرام اتفاق في استوكهولم تضمن إطاراً اقتصادياً خاصاً باستيراد الوقود وعائدات الضرائب والجمارك المحصلة منها، لصرف رواتب الموظفين وفق صيغة مشتركة تشرف الأمم المتحدة على تنفيذها.
لكن وفق حديث الحميدي، تم الاستيلاء على مختلف الإيرادات العامة المتاحة، وفي الوقت الذي أعادت الحكومة اليمنية صرف رواتب الموظفين في مناطق نفوذها التهمها التضخم الشهري، فيما رواتب بعض الدوائر العامة في صنعاء ومناطق شمال اليمن تلتهمها رسوم التحويلات المالية بين المناطق اليمنية والتي تزيد عن 60 في المائة، كما عمد الحوثيون إلى تكوين كادر وظيفي مواز خاص بهم وإنفاق مبالغ عليه تحت مسمى "الحافز" أو بدل تغذية.
استيلاء على الإيرادات
وتسبب الصراع المستمر والحصار بخسائر فادحة لاقتصاد اليمن، الذي تقلص بما يزيد عن النصف منذ بداية الصراع في 2015. ويرى خبراء أنه من دون رفع الحصار واستقرار الاقتصاد الكلي ومن دون وجود بنك مركزي لديه أموال كافية، فإنه من المتوقع أن تشهد البيئة الاجتماعية والاقتصادية المزيد من التدهور خلال الفترة المقبلة.
ومع ارتفاع أسعار السلع الضرورية للحياة مثل الغذاء والمسكن والملبس والدواء والنقل، قفز معدل التضخم التراكمي بنسبة قياسية تزيد عن 70 في المائة على الرغم من أزمة السيولة وانخفاض الطلب على السلع، والذي يرجع بدرجة رئيسية إلى ارتفاع سعر صرف الدولار، وتقييد الواردات وزيادة رسوم الاستيراد واحتكار استيراد سلع أساسية مثل القمح.
وبالتالي تدهورت مستويات معيشة السكان، خاصة ذوي الدخل المحدود والفقراء مما دفع كثيرا منهم إلى دائرة الفاقة والحرمان.
مع ارتفاع أسعار السلع الضرورية مثل الغذاء والمسكن والملبس والدواء والنقل، قفز التضخم بنسبة قياسية تزيد عن 70% رغم أزمة السيولة وانخفاض الطلب على السلع
وتشير أحدث البيانات التقديرية، بحسب تقرير صادر عن قطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية في وزارة التخطيط اليمنية، إلى أن 20.7 مليون شخص في اليمن بحاجة إلى مساعدات إنسانية عام 2021، وأن 12.1 مليون شخص منهم بحاجة ماسة إلى المساعدة.
ويواجه أكثر من نصف السكان مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي.
كما تشير التقديرات إلى أن ما يقارب من 16.5 مليون نسمة من الأشخاص المحتاجين في اليمن يعيشون في مناطق تعتبرها المنظمات الإنسانية مناطق يصعب الوصول إليها بشكل آمن ومستدام بسبب انعدام الأمن والعوائق اللوجستية.
ويلفت الخبير المتخصص في الاقتصاد الاجتماعي رفيع الماوري في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى انعكاس مختلف هذه الأزمات على المجتمع اليمني، والذي يلاحظ من خلال توسع عدد من الظواهر السلبية مثل التسول وعمالة الأطفال وكبار السن، وبروز مهن شاقة بأجور زهيده مثل جمع المواد المعدنية والبلاستيكية أهم عمل متاح للكثير من المتضررين من الحرب والصراع الدائر وتوقف الرواتب.
كما برز بعض الظواهر الأخرى التي ستؤثر على الاقتصاد الوطني في اليمن بشكل كبير مثل توسع ظاهرة التسرب من التعليم، وهي معضلة كبيرة وصادمة لسوق العمل ولجميع الأنشطة الاقتصادية والتنموية.