أصبح الغلاء المتصاعد في تونس يمثل تهديدا حقيقيا للفقراء والطبقات الضعيفة في أبسط حقوقهم الغذائية، بعد زيادات صاروخية في مواد أساسية تشكل سلة غذاء ذوي الدخل المنخفض.
وغذاء الفقراء في تونس يعتمد أساسا على أصناف من الخضر، ومنها الفلفل والبطاطا والطماطم والبصل إلى جانب الزيت والبروتينات المتأتية أساسا من البيض أو اللحوم الحمراء وأحيانا السمك، إضافة إلى فاكهة البطيخ (يطلق عليها محليا اسم الدلاع) الأكثر شعبية في البلاد.
وموائد ذوي الدخل المحدود في تونس المتمثلة في الشكشوكة والطبق المقلي والسلطة المشوية لا تتجاوز مكوناتها الأساسية الفلفل والطماطم والبصل والبيض، وهي مواد فصلية تنتج بكثافة خلال أشهر الصيف، في المقابل تعوّل هذه الشريحة المجتمعية على الغذاء المكون من حساء الخضروات والعجائن شتاء.
غير أن "الشكشوكة" (مرق يكون من الفلفل والبصل والطماطم وبهارات ويضاف إليها البيض) الطبق الأشهر والأقل كلفة في فصل الصيف بات أيضا في مرمى الغلاء، بحسب بيانات رسمية تكشفها أجهزة رصد الأسعار.
وتبيّن الإحصائيات الصادرة عن معهد الإحصاء الحكومي أن المواد الغذائية زادت خلال شهر يونيو/ حزيران الماضي 7.2 بالمائة، بسبب ارتفاع الخضر بـ13 بالمائة وزيادة أثمان الزيوت الغذائية 16.5 بالمائة، إلى جانب تسجيل زيادة بـ8 بالمائة في الحليب ومشتقاته و7.6 بالمائة في الأسماك و6.4 بالمائة من اللحوم.
وأصحاب الدخل المحدود في تونس محرومون منذ سنوات من اللحوم الحمراء والأسماك التي لم يعد حتى لمتوسطي القدرة الشرائية القدرة على تحملها. ونزل معدل استهلاك لحوم الضأن والأبقار من 15 كلغ سنويا قبل 10 سنوات إلى أقل من 6 كلغ حاليا.
وتقول خميسة السعيدية (62 عاما) من ذوي الدخل الضعيف التي تحصل على مساعدة حكومية مقدرة بـ180 دينارا شهريا (65 دولارا) إن الفقراء في تونس يواجهون الجوع بسبب الغلاء المتزايد، مؤكدة أن كلفة أبسط طبق شعبي لأسرة تتكون من 4 أفراد أصبحت تتجاوز 10 دنانير (3.5 دولارات) دون احتساب باقي المصاريف المعيشية.
وأكدت خميسة أن المساعدة الحكومية التي تحصل عليها تكفي بالكاد لسد الرمق لمدة أسبوعين في الشهر، في المقابل تحتاج هي وجميع أفراد أسرتها للعمل في جمع قوارير البلاستيك لتأمين مصاريف الغذاء والإيجار لبقية الشهر.
وتتساءل المرأة الستينية عن دور السلطات في حماية الفقراء مما وصفته بوحش الغلاء الذي يهدد قوتهم وأبسط مقومات العيش، وفق قولها.
وتكشف البيانات الصادرة عن المرصد الوطني للفلاحة أن طفرات الزيادة في أسعار الخضروات تجاوزت الـ50 بالمائة في بعض الأصناف خلال شهر يونيو/ حزيران الماضي، إذ ارتفع سعر البطاطا 52 بالمائة والفلفل 15 بالمائة كما زاد سعر فاكهة البطيخ 11 بالمائة وسمك السردين 11 بالمائة.
ويلاحظ الخبير الاقتصادي خالد النوري، تراجع كميات المواد الزراعية التي تمر عبر أسواق الجملة ومسالك التوزيع المنظمة، ما يفسر استفحال الغلاء بسبب المضاربة في الأسعار وتحكم شبكات المحتكرين في بورصة الأسواق ومستويات التزويد.
وأكد النوري في تصريح لـ"العربي الجديد" أن تراجع الدور الرقابي للأجهزة الحكومية للأسعار ساعد على تشكّل كارتل غذاء في تونس، بات المتحكم الرئيسي في الأسعار التي تتصاعد باستمرار، رغم وفرة العرض وتراجع الاستهلاك الموجه للقطاع السياحي والمطاعم نتيجة فترات الغلق المتواترة.
ورجح النوري أن تستمر وتيرة الأسعار المتصاعدة مخلّفة ضغوطا معيشية كبيرة على مختلف الطبقات الاجتماعية، ولا سيما منها الفقراء الذين يواجهون الغلاء دون مواكبة الإجراءات الاجتماعية لنسق التطور المعيشي، وهو ما تسبب في توسّع دائرة الفقراء في البلاد خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد الجائحة الصحية.
وفي وقت سابق قال وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي، لـ"العربي الجديد" إن المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الحكومة للفقراء تسمح بضمان الحد الأدنى من النفقات وفق معايير دولية، مؤكدا وجود برامج حكومية موازية لتحسين دخول هذه الأسر عبر المساعدات الظرفية، وتشغيل أبناء العائلات المعوزة ومساعدتهم على إحداث مشاريع لأن الهدف الأساسي للبرامج الحكومية المكافحة للفقر هو إخراج هذه الأسر من حالة العوز عبر تحقيق استقلالها المادي وتحسين ظروف عيشها عموما.
وأكد المسؤول الحكومي أن الجائحة الصحية زادت من نسب الفقر في البلاد، وبات يمسّ ما بين 28 و30 بالمائة من الأسر بسبب تراجع الدخول وارتفاع البطالة.
ووسط تحذيرات خبراء اقتصاد، بدأت حكومة هشام المشيشي خطة متدرجة في تفكيك منظومة الدعم، في إطار إصلاحات اقتصادية تعهدت بتنفيذها، في رسالة نوايا قدمتها لصندوق النقد الدولي من أجل الحصول على تمويلات بقيمة 4 مليارات دولار.