تجمَّع آلاف المتظاهرين في تونس العاصمة يوم، 18 سبتمبر/ أيلول، للاحتجاج على استيلاء الرئيس التونسي قيس سعيد على سلطات الحكم في 25 يوليو/ تموز الماضي، والمطالبة بالعودة إلى المسار الدستوري بهدف الحفاظ على المكاسب الديمقراطية بالبلاد، مطلقين صرخة مدوِّية ضدّ العنف والاستبداد، ومندِّدين بما وصفوه بالانقلاب على الدستور والمؤسسات الشرعية من خلال قرارات رئيسهم الأحادية.
وتكرر المشهد يوم 26 سبتمبر حيث دعا المتظاهرون المؤسستين العسكرية والأمنية إلى حماية الدستور، وشددوا على رفضهم الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها سعيد.
أزمات تونس الاقتصادية أكبر من حلِّها داخلياً، ولا بد لها من الاتِّكاء على الدعم الخارجي؛ هذه الحالة مشخَّصة ومن أهمّ أعراضها خروج الاستقرار السياسي عن مساره، ووجود بؤر دائمة للتوتُّر تستنزف قدرات القوى المرشَّحة للصعود
الأزمة السياسية الحالية في تونس لها جذور أعمق تتغذَّى أساساً على الإحباط من عدم الوفاء بالوعود، وعدم استشعار تغيير حقيقي، والنزيف المالي والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمسك بخناق المجتمع التونسي.
أزمات تونس الاقتصادية أكبر من حلِّها داخلياً، ولا بد لها من الاتِّكاء على الدعم الخارجي؛ هذه الحالة مشخَّصة ومعروفة، ومن أهمّ أعراضها خروج الاستقرار السياسي للبلاد عن مساره، ووجود بؤر دائمة للتوتُّر تستنزف قدرات القوى المرشَّحة للصعود.
بحسب أحدث بيانات المعهد الوطني للإحصاء بتونس، انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2 بالمائة خلال الربع الثاني من السنة الجارية بسبب تداعيات جائحة كورونا التي كانت أشدّ وطأة وأعظم أثراً على قطاع السياحة في البلاد.
وبلغ معدل البطالة 17.9 بالمائة خلال الربع الثاني من العام الجاري، مقابل 17.8 بالمائة خلال الربع الأول بسبب عدم قدرة القطاع الخاص علي استيعاب العاطلين من العمل، وقلة استجابة النظام التعليمي لاحتياجات أرباب العمل، فقد بلغ عدد العاطلين من العمل 746.4 ألفاً في الربع الثاني من 2021، مقابل 742.8 ألفاً في الربع الأول، حيث ارتفعت نسبة البطالة 0.4 نقطة لدى الذكور.
وارتفع معدل التضخُّم بشكل خطير من 4.8 بالمائة في مارس/ آذار 2021 إلى 6.2 بالمائة في أغسطس/ آب 2021، بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الأساسية، واختلالات التجارة الخارجية، وتدهور سعر صرف الدينار التونسي مقابل العملات الأجنبية.
ويزداد الأمر سوءاً عند النظر إلى المؤشرات الاقتصادية الحيوية ذات الصلة بالمركز المالي للدولة، حيث يُقدَّر العجز في الموازنة العامة لهذا العام بنحو 6.7 مليارات دولار؛ فيما بلغ العجز التجاري في تونس نحو 1.2754 مليار دينار تونسي (455.42 مليون دولار)، في أغسطس/ آب 2021، مقابل 974.7 مليون دينار تونسي (348.04 مليون دولار) فقط في ديسمبر/ كانون الأول 2020.
الدين العام المستحقّ على تونس يبلغ 35.7 مليار دولار، أي ما يعادل 81.5% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يتعيَّن على البلاد توفير ما يقارب 15.5 مليار دينار، أي 5.6 مليارات دولار لخدمة الدين
وتشير البيانات الرسمية لوزارة المالية والاقتصاد إلى أنّ الدين العام المستحقّ على تونس يبلغ 35.7 مليار دولار، أي ما يعادل 81.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يتعيَّن على البلاد توفير ما يقارب 15.5 مليار دينار تونسي، أي ما يعادل 5.6 مليارات دولار لخدمة الدين.
كما أعلن البنك المركزي عن تراجع احتياطي النقد الأجنبي إلى 7 مليارات دولار في 10 أغسطس/ آب 2021، والذي يكفي لتغطية واردات البلاد لمدة 123 يوماً فقط.
وفي سياق الجو السياسي المحبط والصورة الاقتصادية القاتمة، خفَّضت وكالة موديز الأميركية Moody’s التصنيف الائتماني لتونس من B2 إلى B3 مع نظرة مستقبلية سلبية في شهر فبراير/ شباط 2021، الأمر الذي وُصف بأنّه "فركة أذن" للنخبة الحاكمة في البلاد.
يعلِّق قيس سعيد دوماً انهيار الوضع الاقتصادي بتونس وتأزُّمه إلى درجات غير مسبوقة على شمَّاعة الاختيارات الاقتصادية الخاطئة للحكومات السابقة التي لم تمتلك رؤى صحيحة، ولكن الواقع الحالي يعكس أيضاً أنّ الرئيس التونسي لم يحقِّق إنجازات تذكر في أي من الملفات الشائكة، حتى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار والتي كان يُعوَّل عليها لإنعاش الاقتصاد التونسي توقَّفت منذ شهر مايو/ أيار الماضي بسبب حالة الغموض التي تكتنف المشهد السياسي والتي تفرض على المانحين الدوليين اتِّباع سياسة التريُّث والانتظار.
كل ما تلقَّته تونس هو 741 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة بها لدى صندوق الدولي في إطار التوزيع العام لمخصَّصات حقوق السحب الخاصة على البلدان الأعضاء في الصندوق بالتناسب مع حصص عضويتها لمواجهة جائحة كورونا، والذي أعلنت عنه مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، في بيان نشره الصندوق يوم 23 أغسطس/ آب 2021.
السيناريو اللبناني ليس ببعيد عن تونس، لا سيَّما إذا تخلَّفت عن سداد ديونها الخارجية واضطرَّت إلى إعادة هيكلتها ولم تتمكَّن من تعبئة الموارد المالية اللازمة
السيناريو اللبناني ليس ببعيد عن تونس، لا سيَّما إذا تخلَّفت عن سداد ديونها الخارجية واضطرَّت إلى إعادة هيكلتها ولم تتمكَّن من تعبئة الموارد المالية اللازمة.
وفي حال نجحت تونس في استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض هو الأكبر في تاريخها، فإنّها ستتمكَّن من الحيلولة دون الانزلاق نحو حافة الإفلاس، ولكنّها لن تتجاوز كلياً أزمتها المُركَّبة شديدة التعقيد.
تونس بحاجة ماسة الآن إلى الاقتراض من أجل سداد ديونها ودفع رواتب الموظفين الحكوميين وصرف معاشات التقاعد وليس بهدف الاستثمار. والأربع مليارات دولار التي قد تحصل عليها من صندوق النقد الدولي ستكون مشروطة بإصلاحات اقتصادية صارمة وأهداف متناقضة، كشدّ أحزمة التقشُّف، والضغط على مكابح الإنفاق العام، وزيادة الضرائب، وخفض قيمة العملة المحلية وفاتورة الأجور ودعم الطاقة دون إلحاق الضَّرر بالطبقات المتوسِّطة والفقيرة، فوصفات صندوق النقد الدولي الموحَّدة لعلاج المشاكل الاقتصادية في الدول النامية باتت معروفة ونتائجها الكارثية مضمونة.
تشهد تونس تطوُّرات خطيرة يمكن أن تؤدِّي إلى تسارع الانهيار الاقتصادي والمعيشي، وستكون للوضع الحالي عواقب وخيمة على مستقبل مناخ الأعمال في تونس إذا لم يتم تشكيل حكومة كفوءة وقادرة على تنفيذ الإصلاحات، وكذا خلية أزمة متمرِّسة وواعية تنكبّ على إدارة الملفات الاقتصادية وتتمكَّن من الدخول في مفاوضات مع المؤسسات المالية الدولية واختيار حلول عملية للمحنة الاقتصادية.
إعادة النبض للاقتصاد التونسي مرهونة باستعادة ثقة المستثمرين المحليين والأجانب مرة أخرى وانتهاج سياسات مشجِّعة للاستثمار الإنتاجي، وأي خريطة طريق خالية من تفصيلات تساهم في تنشيط الاستثمار والصناعة وإيجاد البيئة المواتية لذلك لن تفي بالغرض.
تشهد تونس تطوُّرات خطيرة يمكن أن تؤدِّي إلى تسارع الانهيار الاقتصادي والمعيشي، وستكون للوضع الحالي عواقب وخيمة على مستقبل مناخ الأعمال إذا لم يتم تشكيل حكومة كفوءة وقادرة على تنفيذ الإصلاحات
خلاصة القول، لا يمكن لتونس أن تتخطَّى أزمتها أو تعبر محنتها بدون حكومة ولا برلمان، ناهيك عن التفاوض مع المانحين الدوليين والمؤسسات المالية الدولية للحصول على قروض.
وقد أثبت التاريخ أنّ الأزمات الاقتصادية لا تُحلّ في ظلّ الصراع السياسي على السلطة وتصفية الحسابات مع الخصوم والمناوئين، لذلك ينبغي إعادة بوصلة النضال إلى مسارها الصحيح وضمان الاستقرار السياسي والحريات والديمقراطية.