منذ ما يقرب من 9 سنوات، يعيش القطاع المصرفي الليبي برأسين متنازعين على مستوى الجهة المشرفة والرقابية.
كان هناك انقسام شديد داخل المؤسسة النقدية السيادية، وهي البنك المركزي، الذي يراقب أنشطة البنوك وشركات الصرافة وأسواق العملة، ويشرف على طباعة البنكنوت، ويتولى إدارة احتياطي البلاد من النقد الأجنبي والدين العام المحلي والخارجي، وتحديد السيولة النقدية ومكافحة التضخم وغلاء الأسعار.
كان هناك بنك مركزي في العاصمة طرابلس التي تخضع لسيطرة حكومة شرعية معترف بها من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والمؤسسات المالية الدولية وبنوك وصناديق الاستثمار.
وبنك مركزي آخر وموازٍ في مدينة البيضاء ثم في مدينة بنغازي الواقعتين شرقي ليبيا والخاضعتين لسيطرة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ويضم مجموعة من أعضاء مجلس الإدارة المنشقة عن محافظ البنك المركزي الرئيسي في طرابلس.
الخطوة تؤدي إلى إدارة موارد الدولة بكفاءة وتشديد الرقابة عليها، والحد من الفساد وهدر المال العام، واستعادة أموال منهوبة تقدر بنحو 200 مليار دولار
ومع هذا الانقسام، كان هناك محافظ للبنك المركزي في طرابلس هو الصديق الكبير والذي يتخذ قرارات ويطالب كل البنوك العاملة في ليبيا بتطبيقها وإلا تعرضت لمخالفات تصل إلى حد إغلاق أبوابها وحل مجالس إدارتها.
ومحافظ آخر في الشرق هو علي الحبري، قبل إقالته من قبل مجلس النواب، واختيار مرعي رحيل بديلاً له، يتخذ قرارات أخرى، قد تكون متضاربة مع قرارات بنك العاصمة، قرارات كانت تراعي بالدرجة الأولى مصالح السلطة الخاضع لها والأطراف المرتبطة بها.
ومنذ العام 2014 حين اندلعت وقتها الحرب الأهلية في ليبيا، بدأ الانقسام حاداً داخل كلّ المؤسسات السيادية الليبية ومنها الأمن والدفاع البنك المركزي وديوان المحاسبة، وهيئة مكافحة الفساد، والمؤسسة العامة للنفط.
وهو ما فتح الباب أمام حدوث اضطرابات شديدة في القطاع المالي والمصرفي في البلاد، وهروب للأموال، وقلق متصاعد بين المودعين والمتعاملين مع البنوك، وهزات متواصلة في قيمة الدينار الليبي.
صاحب ذلك محاولات دول وأطراف خارجية وافراد السطو على مزيد من أموال ليبيا المجمدة في الخارج منذ العام 2011 والتي تعرضت للنهب منذ سقوط نظام القذافي في شهر أكتوبر 2011.
وكان التأثير الأخطر هو تنازع البنكين المركزيين حول الإيرادات النفطية التي تقدر بمليارات الدولارات سنويا، فكل بنك كان يسعى لإدخال تلك الحصيلة الضخمة إلى خزانته والتحكم في تحديد أولويات وأوجه انفاقها، وبالتالي توجيهها حسب تعليمات الحكومة الخاضع لها.
الانقسام بين البنكين وتحولهما لشطرين متنازعين داخل دولة واحدة لم ينعكسا فقط على المشهد المصرفي والمالي للبلاد، بل على المشهد الاقتصادي والسياسي أيضا
وعلى مدى سنوات طويلة، سعت عدة أطراف محلية وخارجية، منها الأمم المتحدة ودول إقليمية، لردم الشرخ المتعلق بالانقسام داخل البنك المركزي الليبي، ومحاولة توحيده ليكون كياناً واحداً كما كان قبل العام 2011.
لكنّ المحاولات فشلت مع إصرار كل طرف على أحقيته في تلقي إيرادات ليبيا الخارجية وتحديد أوجه صرفها ومنها الرواتب والأجور.
الانقسام بين البنكين وتحولهما لشطرين متنازعين داخل دولة واحدة لم ينعكسا فقط على المشهد المصرفي والمالي للبلاد، بل انعكسا على المشهد الاقتصادي والسياسي برمته، في ظل حرص كل طرف من الأطراف المتحاربة على الفوز بأكبر نصيب من إيرادات الدولة من النقد الأجنبي، بخاصة صادرات النفط والغاز، وإدخالها ضمن أرصدة البنك المركزي الواقع تحت سيطرته، وتخصيص رواتب شبه ثابتة للمليشيات غير المعترف بها والمرتزقة الأجانب من الموازنة العامة للدولة.
لكن يبدو أن الفرقاء السياسيين اتفقوا أخيراً على وضع نهاية للانقسام الحاد داخل مؤسسة البنك المركزي، واتخاذ خطوة مهمة نحو تحقيق الاستقرار النقدي والمالي والمصرفي، إذ تم بالفعل اليوم الأحد الاتفاق على عودة مصرف ليبيا المركزي ليكون مؤسسة سيادية واحدة بعد نحو عقد من الانقسام الحاد.
الخطوة ستكون لها تأثيرات إيجابية كثيرة ليس فقط على المشهد الاقتصادي الليبي، بل على المشهد السياسي، في ظل التقارب الأخير بين الفرقاء السياسيين، إذ يؤدي إلى إدارة موارد الدولة بكفاءة مع تشديد الرقابة عليها، والحد من الفساد وهدر المال العام، وتوحيد جهود ليبيا الرامية لاستعادة أموالها المنهوبة في الخارج والتي تقدر قيمتها بنحو 200 مليار دولار، وصرف الرواتب في مواعيدها ولمن يستحقها وليس للمرتزقة والمليشيات المسلحة، ودعم استقرار العملة الوطنية.