لم يسهم النزاع الدائر في اليمن، منذ نحو ستة أعوام، في انزلاق الاقتصاد الوطني إلى الانهيار وتدمير العملة وسبل عيش اليمنيين مع توقف صادرات النفط والغاز الطبيعي والتي كانت تمثل فيما مضى حوالي نصف الموارد العامة لموازنة الدولة فحسب، بل خلق ثقبا واسعا تسربت منه رؤوس أموال ضخمة ومليارات من الدولارات إلى خارج البلاد لتلتحق بأموال مماثلة واستثمارات واسعة ليمنيين مغتربين منذ سنوات.
وحسب مصادر لـ"العربي الجديد"، فإن عمليات هروب رؤوس أموال من جميع المحافظات لمسؤولين سابقين وحاليين وتجار ورجال أعمال تم الفرار بها إلى الخارج ليعملوا على غسلها عبر استثمارات في دول عديدة، مثل الإمارات والسعودية ومصر والأردن وتركيا.
ووفق تقديرات رسمية، يبلغ حجم الأموال المهربة في حدود 106 مليارات دولار، تم تهريب الكثير منها عبر بنوك إماراتية، خصوصا فيما يتعلق بثروات وأموال الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح ورموز نظامه، إذ استقرت عائلته وأغلب رجال حكمه السابقين في أبوظبي ودبي.
ووفق مصادر رسمية لـ"العربي الجديد"، تم تهريب أموال عبر شركات أعمال وشركات خاصة بتوظيف الأموال تعمل من دبي عملت على سحب أموال طائلة من اليمن إلى خارج اليمن تم تحويل بعضها إلى دول أوروبية وتم تسييلها بواسطة شركات متعددة.
وتؤكد المصادر، التي رفضت ذكر اسمها، أن خروج المنظومة المصرفية والقانونية عن العمل في اليمن وتعطيلها تم بمساهمة مباشرة من الإمارات التي عملت على تسهيل بنوك عاملة فيها لفتح اعتمادات مستندية لشركات استيراد يمنية غير قانونية خصوصا في أول عامين من الحرب، ما ساهم في تعطيل منظومة العمل المالي الرسمية وسمح بتوسيع ثقب تهريب الأموال إلى خارج اليمن.
وأشارت المصادر إلى تهريب عوائد ما يتم تصديره أو تهريبه من النفط والغاز والمقدرة بنحو مليار و300 مليون دولار سنويا، إذ يتم إيداع هذا المبلغ في البنك الأهلي السعودي تحت إشراف وتصرف دولتي التحالف، وبالتالي خروج هذا النقد من الحلقة المحلية للنشاط الاقتصادي الداخلي وعدم وقوعها تحت الرقابة الحكومة اليمنية.
ويعتبر هذا النقد من موارد وثروات اليمن يتم تصريفه بصورة غير واضحة، إذ تؤكد مصادر مطلعة ارتباطها مباشرة بالسفير السعودي إلى اليمن محمد ال جابر، الذي يدير الملف الاقتصادي في حرب التحالف السعودي الإماراتي بما يعرف ببرنامج إعادة الإعمار والبناء في اليمن.
هذا النقد، وفق خبراء ماليين واقتصاديين، يعد بمثابة عملة أجنبية مهربة إلى الخارج، والدليل في ذلك عدم ظهور هذه المبالغ في موازين الاقتصاد القومي وميزان المدفوعات، إضافة إلى المبالغ التي يتم الحصول عليها تحت مسميات مختلفة من قروض ومساعدات ومنح وغيرها والتي لا يتم أيضا ظهورها في الحركة الاقتصادية الداخلية.
وتوثق تقارير ومؤشرات يمنية ودولية حجم الأموال المتسربة إلى خارج اليمن بأكثر من الرقم المعلن رسميا وهو 106 مليارات دولار، إذ تحوي التقديرات الحجم الحقيقي للنهب الذي تعرض له الاقتصاد اليمني ويشمل الفترات السابقة، ليس فقط منذ بداية الحرب الراهنة بل منذ ما قبل الحرب.
وما تتحدث عنه التقارير والخبراء من مبالغ منهوبة من اليمن مبالغ توازي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي وعشرة أضعاف المديونية الحكومية في اليمن، في حال افتراض كذلك القروض والمساعدات المقدمة لليمن والتي كانت تصل سنويا إلى 700 مليون دولار، يضاف إليها حجم الاحتياطيات النقدية الأجنبية في أحسن الظروف في اليمن كانت تصل إلى ما يقارب 9 مليارات دولار، إذ كانت هذه المبالغ المنهوبة بإمكانها أن تعمل على إيجاد نهضة اقتصادية شاملة في اليمن وتحرك التنمية الاقتصادية وتمتص جزءا كبيرا من الفقر والبطالة.
في السياق، ترجح بيانات تقديرية رسمية أن هناك 7 ملايين يمني يتوزعون على خمسين دولة، تأتي على رأسها السعودية التي تستوعب ما يزيد عن مليوني مغترب يمني، ويعولون نصف سكان اليمن. وشكلت تحويلات المغتربين عاملا رئيسيا في دعم استقرار العملة الوطنية المنهارة، بالنظر لوضعية الاقتصاد محدود الموارد، وذلك قبل تدهور هذه التحويلات وتراجعها بشكل كبير لعدة أسباب، أبرزها ما أفرزه انتشار فيروس كورونا من تبعات أثرت على مختلف الدول التي تستوعب العدد الأكبر من المغتربين في اليمن.
وفق تقديرات وزارة المغتربين، تصل استثمارات اليمنيين في الخارج بنحو 120 مليار دولار، إذ يؤكد مسؤولون في الوزارة أن اليمنيين من تجار وعاملين محل احترام واهتمام الدول التي يتواجدون فيها، نظراً لحرصهم على الإنتاج والعمل، والتزامهم بالأنظمة والقوانين الوطنية في تلك البلدان.
حسب هؤلاء المسؤولين الذين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، كان هناك خروج وهروب واسع لرؤوس أموال وطنية إلى الخارج، بفعل الحرب والصراع الدائر في اليمن والذي خلق بيئة طاردة للأعمال والمستثمرين والتجار وغيرهم من ذوي الأملاك والمقتدرين.
كثير من هذه الأموال، وفق تأكيدات رسمية، عبارة عن مدخرات كامنة في الداخل تجري في قنوات غير رسمية وغير متصلة بالمنظومة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية التقليدية والرسمية وجدت طريقها بانسيابية مطلقة إلى الخارج، عقب استيلاء الحوثيين على مؤسسات الدولة في العاصمة اليمنية صنعاء، والذي أدى إلى تفجير الحرب والصراع الدائر في اليمن منذ ما يزيد على خمسة أعوام.
ويرى أستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء وعضو المرصد الاقتصادي اليمني، علي سيف كليب، أن هناك أطرافا مستفيدة من الحرب رفضت تحييد الاقتصاد والعملة ومعيشة الناس عن الصراع الدائر، بل كانت مستفيدة في استخدامها كأوراق في الحرب للتكسب منها.
لذا قد تطول الحرب التي دخلت عامها السادس مادامت هناك أطراف "تعتاش" منها وتحالف أهلك الحرث والنسل (في إشارة للتحالف العربي) والذي ينفذ، وفق كليب في حديثه لـ"العربي الجديد"، أجندة خاصة به، بحجة دعم "الشرعية" ودحر "الانقلاب"، لكن ما يلاحظ على الواقع عكس ذلك على كل المستويات السياسية والعسكرية ونهب وتفتيت متواصل للجغرافيا اليمنية، بينما ساء الوضع الاقتصادي في بلد أصبح مفرغا من كل ثرواته ومقدراته وما كان متوفراً من أموال واستثمارات وأعمال.
ومع إطالة أمد الصراع الدائر وتوسع حجم الخسائر والأضرار الناجمة والتي تجاوزت قيمتها قدرات اليمن على التعافي لما بعد مشاريع إعادة الإعمار، أصبحت تكلفة انتشال البلاد من هذه الوضعية باهظة ومعقدة وتتطلب دعما وجهود دولية سخية لتطبيع الحياة في المناطق والمدن المدمرة والمتضررة.
ويرجح خبراء قطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية الحكومية أن يرتفع حجم الفرص الضائعة في الناتج المحلي الإجمالي في اليمن الذي قدره القطاع سابقاً بنحو 66 مليار دولار، وذلك مع نهاية العام إلى 72 مليار دولار، وفي ذات الصدد قدرت "خطة الاستجابة الإنسانية" للعام 2019 التي أعدّتها الأمم المتحدة الخسائر المتراكمة في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في اليمن منذ عام 2015 بنحو 49 مليار دولار، بينما انكمش الاقتصاد الوطني نحو 60%.
ومن جانبها، تقدر الحكومة اليمنية في مسودة وثيقة تعرف بخطة أولويات إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي 2019 – 2020 اطلعت عليها "العربي الجديد"، خسارة الاقتصاد اليمني بسبب الحرب نحو 50 مليار دولار كخسارة ضمنية، بينما بلغت الخسائر الإضافية الناجمة عن تدمير البنية التحتية إلى عشرات مليارات الدولارات.
كما أن اليمن عانى من الانقسام في إدارة المالية العامة منذ عام 2016، الأمر الذي يجعل من الصعب التوصل إلى حقائق وأرقام وتحليلات شاملة لوضع الموازنة العامة الموحدة على المستوى الوطني.
وتمثل أزمة المالية العامة واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية في اليمن، وضمن أخطر تداعياتها استمرار أزمة العملة وموظفي الخدمة المدنية، وتعليق سداد خدمة الدين العام المحلي وعرض القطاع المصرفي لأزمة سيولة خانقة.
ويشهد اليمن تدهورا اقتصاديا وإنسانيا مريعا في ظل بقاء مواقع اقتصادية سيادية خارج سيطرة الدولة منذ ما يزيد على خمسة أعوام، وتوقف إنتاج وتصدير النفط والغاز وخروج ميناء بلحاف الاستراتيجي عن الخدمة، بالإضافة إلى تعطيل الموانئ واستمرار عمل المطارات خارج الإطار الرسمي للحكومة اليمنية، فيما غادرت معظم الشركات العالمية المستثمرة في قطاع النفط والغاز وتوقُف عشرات الشركات المحلية العاملة في هذا القطاع وقطاعات اقتصادية أخرى.
وحسب خبراء اقتصاد، فإن الحرب الدائرة في اليمن منذ 2015 وتعطيل الموانئ والمنشأة الحيوية تركت أضرارا بالغة في رأس المال المادي والبشري والاقتصادي وعزز حالة عدم اليقين بشأن مستقبل التنمية في البلاد.
ويحمّل الباحث الاقتصادي، كمال الباشا، التحالف مسؤولية توسع الثقب الذي نفذت منه الكتلة النقدية الضخمة إلى الخارج من ناحية أو خروجها عن المنظومة النقدية الرسمية في الداخل، في مقابل إغراق السوق اليمنية بعملاته من الريال السعودي والدرهم الإماراتي، خصوصاً في الثلاث سنوات الأولى من الحرب، تضمنت رواتب عشرات التشكيلات العسكرية التي أشرفت على تشكيلها، وكذلك ضخ أموال لشراء ولاءات وسحب العملة المحلية وتفريغ اليمن من النقد ليسهل التحكم به وتمرير مشاريعهم وأهدافهم المشبوهة.
ويقول الباشا لـ "العربي الجديد"، إن الدمار الهائل الذي تعرض له اليمن منذ خمس سنوات يتحمل مسؤوليته التحالف، إذ استهدفت طائراته وغاراته الجسور والمصانع ومحطات الكهرباء والمزارع والمنشآت المدنية الخدمية، وذلك بهدف النيل من قطاع الأعمال والاقتصاد اليمني من أجل خلق بيئة طاردة للأعمال والتجارة والاستثمار.
إضافة، كما يتحدث الباشا، إلى قيام التحالف بوضع يده على الموانئ والمنافذ الجوية والبحرية والمواقع الاقتصادية، إذ كوّن مليشيات خارج إطار الدولة، وقوّض سيطرة الحكومة اليمنية على منابع إنتاج النفط ومرافئ التصدير ومختلف الإيرادات العامة التي تذهب إلى هذه المليشيات في مناطق يفترض سيطرة الحكومة الشرعية عليها.