تعثّر الحكومة اللبنانيّة: الأسباب والكلفة

16 نوفمبر 2021
متظاهرون لبنانيون في باريس ضد الفساد السياسي والمالي بلبنان (Getty)
+ الخط -

يوم نالت حكومة نجيب ميقاتي الثقة في 22 أيلول/سبتمبر الماضي، أعطى الحدث جرعة تفاؤل على المستوى المحلّي اللبناني، خصوصاً كونه جاء بعد أكثر من سنة وشهر من الفراغ الناتج عن استقالة الحكومة السابقة وعدم تشكيل حكومة بديلة.

لكنّ بعد 22 يوماً فقط من إعطاء حكومة ميقاتي الثقة، وتحديداً في 12 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، دخلت الحكومة في مرحلة التعثّر التام نتيجة الخلافات السياسيّة بين أقطابها. فمنذ ذلك الوقت، لم تعقد الحكومة جلسة رسميّة واحدة لاتخاذ القرارات وإصدار المراسيم المتعلّقة بالملفات الاقتصاديّة والماليّة الداهمة، ما أدّى إلى عرقلة اندفاعتها التي ظهرت أمام الرأي العام في أولى أيامها.
الخلاف الأوّل الذي فجّر العلاقة بين مكوّنات الحكومة منذ 12 تشرين الأوّل/أكتوبر ارتبط تحديداً بملف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، بعد أن أصر كل من حزب الله وحركة أمل (بزعامة نبيه برّي) وتيار المردة (بزعامة سليمان فرنجيّة) على ربط أي اجتماع مقبل للحكومة باتخاذها قراراً ضد المحقق العدلي في هذا الملف طارق البيطار.
وهذا التطوّر يرتبط بالحملة التي تشنّها هذه القوى السياسيّة في وجه المحقق العدلي، الذي تجرّأ على استدعاء ضباط كبار ونوّاب ووزراء حاليين وسابقين إلى التحقيق دون اعتبار للحمايات الطائفيّة والسياسيّة التي يستفيدون منها.
في المقابل، يصرّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حتّى اللحظة على عدم توريط الحكومة كسلطة تنفيذيّة بالتدخّل في عمل السلطة القضائيّة، وفقاً لمبدأ استقلاليّة القضاء والفصل بين السلطات.
أمّا الخلاف الثاني الذي برز لاحقاً في أواخر تشرين الأوّل/أكتوبر، فيتعلّق بأزمة لبنان الدبلوماسيّة مع السعوديّة وبعض دول الخليج التي سحبت سفراءها من لبنان. فميقاتي يرغب بمعالجة هذه الأزمة الدبلوماسيّة فوراً مهما كانت كلفة هذه المعالجة، فيما يصرّ حزب الله على عدم استقالة أو إقالة وزير الإعلام، الذي تسببت تصريحاته بهذه الأزمة.
يمتلك ميقاتي حساباته الاقتصاديّة المعقّدة في كل من الخلافين. فالتدخّل في عمل القضاء على النحو الذي يرفضه ميقاتي ويطلبه حزب الله وحلفاؤه، من شأنه توجيه طعنة إلى مصداقيّة الحكومة أمام صندوق النقد، على أعتاب استئناف جلسات التفاوض الرسميّة مع الصندوق. فضمان استقلاليّة القضاء، وإقرار القوانين اللازمة لذلك، مثّلا شرطاً أساسياً من شروط الصندوق في جولة التفاوض السابقة مع الدولة اللبنانيّة.
أما عرقلة التشكيلات القضائيّة من قبل رئيس الجمهوريّة خلال العام الماضي، فمثّلت إحدى الرسائل السلبيّة التي تلقفها الصندوق بسلبيّة شديدة، وكانت إحدى أسباب عرقلة المفاوضات.
وفي جميع البيانات الصادرة عن المسؤولين الفرنسيين والاتحاد الأوروبي، وسائر الجهات الدوليّة المتابعة للملف المالي اللبناني، لم تخلُ لائحة المطالب والشروط يوماً من مطلب استقلاليّة السلطة القضائيّة، التي تمثّل بالنسبة إلى هذه الجهات ضمانة لانتظام عمل المؤسسات العامّة ومكافحة الفساد.
وميقاتي يدرك جيّداً أن المس بهذا المبدأ سيهدد الغطاء الدولي الممنوح للحكومة من قبل هذه الجهات، وسيؤثّر على فرص الحكومة في استقطاب مساعدات وقروض وازنة منها، بالتوازي مع قرض صندوق النقد الدولي.

في الملف الخليجي، تختلط حسابات ميقاتي الماليّة الشخصيّة بحسابات الحكومة الاقتصاديّة. كرجل أعمال تمتد استثماراته في جميع أنحاء العالم، لا يملك ميقاتي مصلحة في ترؤّس حكومة مواجهة تستعدي معظم الدول الخليجيّة.
ولهذا السبب بالتحديد، رفع ميقاتي السقف في مواجهة الأقطاب المحليين الذين ساهموا في تعقيد الأزمة مع الدول الخليجيّة، رابطاً في تسريبات عديدة بين بقائه في موقعه ومعالجة هذه الأزمة.
لكن في حسابات الحكومة الاقتصاديّة، يدرك ميقاتي أن نحو 2.93 مليار دولار من مساعدات وقروض مؤتمر سيدر كان يفترض أن تأتي من الدول الخليجيّة التي اندلعت أزمة الحكومة الدبلوماسيّة معها، أو من مؤسسات ماليّة تملك فيها هذه الدول نفوذاً وازناً.
مع الإشارة إلى أن أموال مؤتمر سيدر كانت مدرجة من ضمن خطّة التعافي الماليّة الحكوميّة السابقة، كأموال يراهن لبنان على استقطابها بعد إنجاز التفاهم مع صندوق النقد الدولي. كما من الأكيد أن الحكومة الحاليّة ستراهن على هذه الأموال من ضمن خطة التعافي الماليّة الجديدة التي تعدّها.
من جهة أخرى، من المفترض أن تسعى الحكومة إلى إقناع الدائنين الأجانب بجديّة خطتها للتعافي المالي، قبل أن يوافق هؤلاء على إعادة هيكلة الديون. كما من المفترض أن تقنع الحكومة صندوق النقد بهذه الخطّة، للدخول في برنامج قرض معه وإقناعه بقدرة لبنان على سداد القرض لاحقاً.
ومن الناحية العمليّة، ستفقد الحكومة جديّة خطتها إذا دخلت مسار المعالجات الماليّة وهي في حالة عداء مع أكبر الأقطاب الماليين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومع الدول التي كانت تمثّل أبرز مصدر للتحويلات الماليّة الواردة من الخارج إلى النظام المالي اللبناني.
لكل هذه الأسباب، تعنّت ميقاتي في مسألة ضرورة معالجة الأزمة مع الدول الخليجيّة بأي ثمن، وفي عدم التدخّل في مسار تحقيقات انفجار المرفأ، وهو ما أدى إلى تعثّر عمل حكومته نتيجة الخلاف السياسي بينه وبين بعض أقطابها. لكنّ هذا التعثّر سيحمل بدوره كلفة باهظة على العديد من الملفّات الاقتصاديّة والماليّة الحيويّة التي تعمل عليها الحكومة اليوم.
فمن ناحية مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بدأ فريق عمل الحكومة المفوّض بهذا الملف المناقشات التمهيديّة مع الصندوق، ومن المفترض أن تنطلق المفاوضات الرسميّة خلال هذا الشهر. لكنّ شلل الحكومة، وفقدان الانسجام بين مكوّناتها، سيؤثّر على فعاليّتها من ناحية مناقشة وإقرار الخطّة الماليّة التي ستجري على أساسها المفاوضات.
فمن الناحية الدستوريّة والقانونيّة، من الأكيد أن الحكومة ستحتاج إلى مناقشة وإقرار الخطة الماليّة بالتصويت داخل جلسة أو جلسات رسميّة عدّة لمجلس الوزراء، ومن ثم صياغة عشرات مراسيم مشاريع القوانين التي تحتاجها لتنفيذ الخطة، قبل أن يقوم المجلس النيابي بالتصويت على هذه المشاريع.

وفي الوقت نفسه، ستحتاج الحكومة أيضاً إلى صياغة عشرات الخطط الفرعية لمعالجة ملفّات مرتبطة بالخطة، خلال فترة قصيرة جداً. كل ذلك يستلزم فعاليّة مفقودة اليوم، وخصوصاً في ظل عدم عقد اجتماعات رسميّة للحكومة.
أمّا الأخطر، فهو أثر هذا الشلل الحكومي على التعامل مع ملفّات أخرى داهمة، كآليات الدعم البديلة التي لم تدخل حيّز التنفيذ بعد، بالرغم من توقّف دعم المصرف المركزي لاستيراد السلع الأساسيّة.
وبالرغم من عمل كل وزير على الملفات التي تتعلّق بوزراته بشكل منفصل، لا يبدو، بغياب اجتماعات الحكومة، أن هناك رؤية أو مقاربة موحّدة للحكومة في أي ملف. باختصار، لم تستقل الحكومة أو رئيسها، لكنّها باتت تعمل وكأنها حكومة تصريف أعمال لا أكثر.

المساهمون