أخذ الملف الاقتصادي في تركيا اتجاها معاكسا للتجاذبات السياسية في البلاد على خلفية الإعلان عن مقترح كتابة دستور جديد للبلاد ومظاهرات الطلاب بجامعة "بوغازيتشي". فقد شهدت العملة التركية تحسنا ملحوظا مقابل الدولار في ظل العديد من المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، ومنها تحسن الصادرات، وسياسات البنك المركزي الجديدة.
وبلغت الليرة التركية أقوى مستوياتها منذ أغسطس/ آب الجمعة الماضية وعززت مركزها كأفضل العملات أداء في العالم منذ بداية العام، بعد أن أكد محافظ البنك المركزي التركي، ناجي إقبال، أنه من المستبعد خفض أسعار الفائدة.
وقال محافظ المركزي: "إنه لا يبدو ممكنا وضع خفض أسعار الفائدة على جدول الأعمال لفترة طويلة من العام الجاري"، مضيفا أنه ربما تُرفع الفائدة مجددا إذا اقتضت الضرورة. وعززت تعليقاته الليرة لتصعد بأكثر من 0.7 بالمئة إلى 7.09 ليرات مقابل الدولار يوم الجمعة من 7.14 يوم الخميس الماضي.
وكان بنك الاستثمار العالمي "غولدمان ساكس" قد توقع، خلال مذكرة أيضاً، أن يدور سعر الليرة بين 7 و7.5 ليرات للدولار في الأشهر الثلاثة المقبلة، مضيفاً أنّ جهود البنك المركزي المركزي لإعادة بناء الاحتياطيات قد تكبح مكاسبها.
وواصلت الليرة التركية تحسنها، أمس الأحد، مسجلة أفضل سعر منذ سبعة أشهر، بعد اقتراب تصريف الدولار من 7.045 ليرات، إثر بدء مفاعيل رفع سعر الفائدة إلى 17%، بحسب ما يقول أستاذ المالية بجامعة باشاك شهير، فراس شعبو، لـ"العربي الجديد"، الذي أكد أن العملة التركية مرشحة لمزيد من التحسن، بعد تراجع التوترات السياسية الخارجية، والتوقعات الدولية المتفائلة للنمو والصادرات وعودة السياحة خلال الموسم الجاري خاصة من قبل صندوق النقد الدولي.
ولكن قد تتأثر الليرة على المديين المتوسط والبعيد في حالة تصاعد التوترات السياسية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمعارضة، حسب مراقبين.
وكانت تركيا قد شهدت احتجاجات طلابية على تعيين أردوغان، البروفيسور مليح بولو، رئيساً جديداً لجامعة بوغازيتشي إحد أعرق الجامعات في البلاد، حيث استغلتها بعض الأحزاب المعارضة لتوجيه انتقادات للحكومة، بالإضافة إلى دخول جهات خارجية على الخط إذ طلبت واشنطن إيضاحات حول الأمر.
لكن وزارة الخارجية التركية، حسمت الأمر برأي المراقبين، خلال بيانها الواضح، بأن الأمر شأن داخلي ولا يحق لأحد التدخل "بشؤوننا الداخلية" مع إشارة البيان إلى أن تركيا "أثبتت بخطواتها الإصلاحية أنها تكفل حماية الحقوق والحريات الأساسية" وذلك عقب "تطاول بعض الطلاب المحتجين على الكعبة المشرفة واستخدام رموز تمثل المثليين".
وكان صندوق النقد الدولي قد توقع أخيراً استمرار انتعاش الاقتصاد التركي وتحقيقه نمواً مستداماً خلال العام الجاري 2021، وأن تبلغ نسبة النمو 6%، مضيفاً، في بيان، أنّ تفشي فيروس كورونا الجديد أثر على الاقتصاد التركي على غرار تأثيره في كافة البلدان، لكن اتباع السلطات التركية، خلال فترة كورونا، سياسات تركز على التوسع النقدي والائتماني، منح اقتصاد البلاد دفعة قوية للنمو.
وأشار البيان إلى ضرورة أن تركز الإصلاحات الهيكلية التي ستقوم بها الحكومة التركية على التخفيف من المخاطر التي تشكلها الآثار السلبية طويلة الأجل للوباء، وأن تشمل الإصلاحات تدابير هادفة لدعم الفئات الأكثر ضعفاً، وتعزيز مرونة سوق العمل، وتسهيل تخفيض ديون الشركات.
وجاء طرح الرئيس التركي مقترح كتابة "دستور مدني يلائم تطلعات الشعب"، ليتسبب في تجاذبات سياسية مع المعارضة، إلا أنه لم تترتب عليه تداعيات اقتصادية حتى الآن.
وفي هذا السياق، يقول المحلل التركي، سمير صالحة، لـ"العربي الجديد" إن التجاذبات السياسية بين "تحالف الشعب" الذي يضم حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية، مع أحزاب المعارضة، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري "لا تصل لمرحلة الإساءة للاقتصاد".
وأضاف أن الأحزاب التركية جميعها، تقف بخندق واحد حينما يصل الأمر لمصالح البلاد والأمن القومي ومعيشة السكان، مستدلاً بوقوف الأحزاب المعارضة بوجه العقوبات الأميركية خلال عام 2018، ومؤيدة لحقوق تركيا بثروات البحر المتوسط العام الماضي، وبوجه الانقلابيين عام 2016.
ولا يقلل المحلل التركي من تداعيات التوترات السياسية التي تعالت بالآونة الأخيرة، بعد طرح مقترح الدستور الجديد وتظاهرات الجامعة وإعادة فتح ملف الحكم الرئاسي، لكنها برأيه لن تصل لاحتجاجات واسعة، أو تصل لانقسام الشارع وتعطيل التنمية والاقتصاد.
ويشير صالحة إلى أن أرقام الاقتصاد التركي، من حيث الصادرات وسعر صرف، هي الأفضل هذه الفترة، متوقعاً مزيدا من التحسن بعد لقاحات فيروس كورونا، وعودة البلاد التدريجية للفتح والإنتاج بمعدلات أكبر.
وبدأت أرقام التعافي تظهر على الاقتصاد التركي، بعد ارتفاع نسبة الصادرات 2.5 بالمائة، ووصول صادرات شهر يناير / كانون الثاني الماضي، إلى 15 مليارا و48 مليون دولار، بحسب وزيرة التجارة، روهصار بكجان، التي عبرت خلال تصريحات أخيراً، عن سعادتها الكبيرة لانطلاق عام 2021 برقم إيجابي للصادرات.
ووفق الوزيرة فإن رقم الصادرات يوضح أن عملية النمو التي شهدها الربع الأخير من العام الماضي في الصادرات مستمرة، وأن العجر التجاري خلال يناير/ كانون الثاني بلغ 3 مليارات و75 مليون دولار، مسجلًا انخفاضًا بنسبة 32 بالمئة مقارنة بذات الشهر من العام الماضي.
ولكن في المقابل، يتخوف مراقبون أتراك من "تصاعد التوترات السياسية الداخلية" بعد طرح المعارضة انتخابات مبكرة واعتراضها على صياغة الدستور الجديد وملامح استمرار احتجاجات طلبة جامعة "بوغازيتشي" ووصولها للشارع التركي الذي يعاني من غلاء الأسعار وتراجع قدرته الشرائية.
وتشهد السياسة الداخلية في تركيا نقاشات حادة في الآونة الأخيرة على خلفية تصريحات صدرت عن شخصيات بارزة من حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، حيث وصف الحكومة التركية بـ"النظام" و"نظام القصر"، فيما حذّر حزب العدالة والتنمية الحاكم من "مساع انقلابية".
وقال المتحدث الرسمي باسم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزال، إن "نهاية نظام القصر اقتربت"، في إشارة إلى النظام الرئاسي وحكومة اردوغان. وأشار الناطق باسم أكبر الأحزاب المعارضة إلى عدم الرضى عن تعيينات في مناصب اقتصادية.
وكان الرئيس التركي قد أكد في المقابل، أول من أمس، أن "حزب الشعب المعارض" يقف حائلاً دون تطلعات تركية وتنفيذها المشروعات الكبرى ووصول اقتصادها إلى مصاف العشرة الأوائل على مستوى العالم.
وأضاف أردوغان خلال مشاركته عبر اتصال مرئي من إسطنبول، في افتتاح جسر "توهما" بولاية ملاطية، شرقي تركيا: "نتجه لتنفيذ مشاريع أضخم واستثمارات أكبر، في إطار مساعينا لجعل اقتصاد تركيا في مصاف العشرة الأوائل".
وفي حين يشير الرئيس التركي إلى أن أضرار وباء كورونا كانت جسيمة، حتى على اقتصادات الدول المتطورة، نجحت بلاده في تقليل الخسائر بسبب الوباء إلى الحد الأدنى، وأن تركيا تعتبر واحدة من دولتين فقط في مجموعة العشرين، تشير التوقعات إلى أنها حققت نموا إيجابيا في 2020.
ويرى المحلل التركي، يوسف كاتب أوغلو، أن من يروّج لزعزعة الاقتصاد والأمن الداخلي التركي والتأثر بالتوترات، لن ينجح في مساعيه، لأن الاقتصاد التركي حقق قفزات كبيرة هذه الآونة بالذات، فالليرة حققت ارتفاعاً بنسبة 18 بالمائة هذا العام، وسجلت أفضل سعر منذ سبعة أشهر، وكذلك البورصة التركية ارتفعت إلى 1535 نقطة، وهذه أعلى زيادة تصلها، فضلاً عن ارتفاع الصادرات مقارنة بالعام الفائت.
ويضيف أوغلو لـ"العربي الجديد" أن "الخارج حاول استغلال هذه الحوادث، رأينا احتجاجا من واشنطن والاتحاد الأوروبي، وهذا يدل على أن من يدبر الأمر مدعوم خارجيا، وإلا لماذا التدخل في شأن تركي بحت"، مؤكداً أنه لا تأثير لهذه الأمور على الأنشطة الاقتصادية، وأن محاولة خلق أجواء سياسية غير مستقرة، لتؤثر على الأوضاع المالية وتطلعات تركية، ستبوء بالفشل، والأرقام هي الفيصل والدليل.