طموحات إثيوبية كبيرة تجلت في الإصرار على المضي قدما في تشييد سد النهضة ثم الإعلان مؤخراً عن بدء بناء سد جديد في ولاية أمهرا أطلق عليه اسم "أجما-شاشا"، وروجت السلطة لبناء السدود على أنه الأمل الإثيوبي في التنمية، وأن بناء السدود الذي هو مصدر توليد الكهرباء وتصديرها، علاوة على توفيره للمياه في بعض المناطق أثناء الجفاف، هو المخرج الوحيد من المعضلة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
ورغم نجاح إثيوبيا واستمرارها في تحقيق معدل نمو مرتفع في حدود 10% في المتوسط خلال 15 عاما الأخيرة، الا أن الملاحظ هو تراجع هذا المعدل خلال العامين الأخيرين، ومن المتوقع استمرار تراجعه كذلك خلال العام الحالي في ظل تداعيات أزمة كورونا.
كما أنه من الملاحظ كذلك أن الاقتصاد الإثيوبي لا يزال يواجه الكثير من التحديات مثل العمالة غير الماهرة، وارتفاع تكاليف النقل، والخدمات المالية والاتصالات المحدودة، وانعدام أمن حيازة الأراضي.
يضاف إلى ذلك تخلف استثمارات القطاع الخاص عن استثمارات الحكومة، حيث لا تزال الدولة تحتل مرتبة منخفضة في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال الذي يصدره البنك الدولي، وهو ما أدى إلى فشل الدولة في الانتقال نحو الإنتاج والتصدير الصناعي، واستمرار قطاع الخدمات كمكون رئيس للناتج القومي، إلى جوار القطاع الزراعي الذي تشكل صادراته ما يزيد عن ثلثي صادرات الدولة.
انطلاقاً من هذه المعطيات من الواضح أن السلطة الإثيوبية اعترفت بعدم قدرتها على الإصلاح الاقتصادي فكان توجهها نحو التوسع في إنتاج وتصدير الكهرباء، استنادا إلى عوز دول الجوار في الإنتاج والاستهلاك، لا سيما السودان وجيبوتي وكينيا، ولعل ذلك ما يفسر الإصرار الإثيوبي على بناء السدود التي ستمكنها من زيادة قدراتها من الإنتاج الكهربائي.
وبحسب بيانات شركة الكهرباء الإثيوبية EEP، تبلغ قدرة البلاد على إنتاج الطاقة المائية 45000 ميغاواط، والطاقة الحرارية الأرضية 10000 ميغاواط، وطاقة الرياح 1.3 مليون ميغاواط. وبذلك فإن قدرة البلاد على توليد الطاقة تعتمد إلى حد كبير على الطاقة الكهرومائية المولدة من أنهارها التسعة الرئيسية.
ونظراً للطلب الداخلي المتزايد على الطاقة وتنويع مصادر إنتاجها غامرت الدولة بالدخول الي مجالات الطاقة المتجددة للرياح ومصادر الطاقة الحرارية، حيث أنشأت مزرعتي أداما للرياح بقدرة 153 ميغاوات، وبذلك تصل إجمالي الطاقة المولدة من الرياح في عام 2019 نحو 324 ميغاواط، بالإضافة إلى إنشاء محطة رياح عائشة بقدرة 300 ميغاواط وهي قيد التنفيذ حاليا.
وتشير بيانات الخطة الخمسية (2015-2020)، إلى أن الحكومة خططت لزيادة سعة التوليد بمقدار 5000 ميغاوات إضافية بحلول عام 2022، ليكون إجمالي سعة التوليد المتوقعة 10358 ميغاوات.
وعلى الرغم من الإمكانات الكبيرة للطاقة في إثيوبيا، لا تزال البلاد تعاني من نقص حاد في الإنتاج وتناقص الأحمال، لا سيما في ظل الطلب المتزايد على الكهرباء والذي من المتوقع أن ينمو بنحو 30% سنويًا.
ووفقًا للبرنامج الوطني للكهرباء الذي أطلقته الحكومة مؤخراً، فإن 44% من السكان فقط لديهم إمكانية الوصول إلى الكهرباء (33% على الشبكة، 11% خارج الشبكة)، ولكن المشكلة أن أكثر من نصف المستهلكين (3.8) ملايين أسرة ليس لديهم اتصال رسمي على الشبكة.
وتطمح إثيوبيا بعد زيادة قدراتها الإنتاجية من الكهرباء والاكتفاء الذاتي إلى الاعتماد على صادراتها كمصدر رئيسي للدخل، وحالياً تصدر إثيوبيا الكهرباء إلى جيبوتي والسودان (نحو 100 ميغاوات لكل منهما).
وهناك خطة لزيادة صادرات الطاقة إلى جيبوتي حتى 400 ميغاوات بسبب طلبها المتزايد، وكانت إثيوبيا قد حققت إيرادات بقيمة 66.4 مليون دولار من صادرات الكهرباء للسودان وجيبوتي في عام 2019. كما تتفاوض إثيوبيا أيضًا على اتفاقية لبدء تصدير الطاقة إلى كينيا بنحو 400 ميغاوات، ومن المتوقع أن يتم الانتهاء من بناء المرحلة الأولى من خط نقل "إثيوكينيا" في أواخر عام 2020، ويبلغ إجمالي طول خط النقل 17448 كم، من بينها 4000 كيلومتر من الخط لا تزال قيد الإنشاء.
وتواجه هذه الطموحات الإثيوبية العديد من المعوقات والتي من أبرزها النزاع العسكري الداخلي الذي نشب بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم تيغراي، علاوة على النزاع الذي يتطور سريعاً مع السودان والذي تطمع إثيوبيا في الاستيلاء على جزء من أراضيه، حيث ترجح الكثير من المصادر استزراع الإثيوبيين أكثر من 300 ألف فدان بعمق 22 كم داخل الحدود السودانية من اتجاه بركة نورين.
كما تعترض المصالح المصرية هذه الطموحات كذلك، فرغم توقيع السيسي على اتفاقية تمحو الاتفاقيات التاريخية التي تحفظ حقوق مصر في مياه نهر النيل، إلا أن الواقع يؤكد أن حياة المصريين مرتبطة بالنهر، وأن الاتفاقيات والانتهاء من بناء السد يعترضان حق الحياة للمصريين، وإن هادنت السلطة المصرية الحالية، فالأمور مرشحة لتصاعد كبير، لا سيما مع بداية التأثير الفعلي لنقص تدفقات المياه إلى مصر.
وتشير بيانات معهد أبحاث الطاقة الأميركي أن سد النهضة سيكلف إثيوبيا ما بين 4 إلى 5 مليارات دولار، وأنه سيولد 2.2 ألف ميغاوات كهرباء فقط، بينما تروج إثيوبيا توليده لنحو 6 ميغاوات، وفي كل الأحوال فإن هذه الكميات لن تكفي الحاجات المحلية، فضلاً عن تحقيق عائدات تصدير ذات أهمية تساهم في سد عجز الميزان التجاري وتحسين قيمة العملة الإثيوبية، وهو ما يوضح وهم الطموح الإثيوبي في تصدير الكهرباء.
وفي المقابل تمتلك مصر فائض كهرباء يقدر حجمه حالياً بنحو 15 ميغاوات تقريبا، وتشير التقديرات إلى تضاعف هذا الفائض بحلول عام 2022، مما يطرح علامة الاستفهام عن عدم تفاوض مصر على تقديم مصر الكهرباء لإثيوبيا ولو مجاناً، مقابل التوقف عن بناء السدود، ولا يمكن الجزم تحديداً بمدى عرض مصر ذلك ورفض إثيوبيا، لكن المؤكد هو أن المخطط الإثيوبي لبناء السدود له دوافع أخرى بخلاف الكهرباء.
يشير البعض إلى أن إثيوبيا تنطلق من مفاهيم "الاستثنائية الإثيوبية" والتي تطلق على طريقة التفكير المسيطرة على العقل الاستراتيجي الإثيوبي منذ انتصارها في "معركة عدوة" التاريخية عام 1896، والتي تفيد بأنها الدولة الأفريقية الوحيدة التي ألحقت هزيمة بالمستعمر الأوروبي.
وتكتمل هذه الصورة الاستثنائية في مخيلة الإثيوبيين بتفرد وتميز بلادهم بتراثها الثقافي والفلكلوري، كما يعتقد كثير من الإثيوبيين أن بلادهم متميزة ومختارة من منطلق لاهوتي ديني، حتى قضية المياه وتشييد السدود بالنسبة لهم هو تجسيد لمفهوم "الهيمنة المائية المضادة".
من الواضح أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ومسانديه يعيشون وهم الإمبراطورية الإثيوبية التي تسعى للنهوض بأي ثمن، ودونما وضع اعتبار للحسابات السياسية، ولا لقدرات البلاد العسكرية وإمكاناتها الأمنية، وذلك ما دفعه للعمل العسكري ضد إقليم تيغراي والذي لم يحسم نهائياً بعد، ثم الاعتداء المتكرر على السودان، فضلا عن المماطلة في مفاوضات سد النهضة، وربما دفعه ذلك إلى الاستغراق في وهم أن التوسع في صادرات الكهرباء الإثيوبية سيكون على حساب المصريين.