تسخين الجنيه المصري في هذا التوقيت الحرج لمصلحة من؟

15 اغسطس 2024
مقر البنك المركزي المصري بالقاهرة (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الوضع الحالي للجنيه المصري:** لا توجد مبررات قوية لتعويم الجنيه المصري حالياً، حيث اختفت السوق السوداء للعملة منذ مارس الماضي، وتحول عجز أصول البنوك من النقد الأجنبي إلى فائض بفضل تدفقات النقد الأجنبي الكبيرة، وارتفع الاحتياطي الأجنبي بنسبة 32% خلال أول 7 أشهر من العام الجاري.

- **المؤشرات التي قد تدفع نحو التعويم:** سيطرة السوق السوداء، تفاقم أزمة عجز أصول البنوك، وتراجع الاحتياطي الأجنبي إلى مستويات حرجة، ولكن هذه المؤشرات غير متحققة حالياً.

- **التوصيات لتجنب تعويم الجنيه:** وقف الحصول على قروض خارجية جديدة، التفاوض مع الدائنين لتحويل ديونهم إلى استثمارات مباشرة، والتوقف عن الإنفاق الاستثماري الضخم على مشروعات غير ذات أولوية، وتطبيق برنامج اقتصادي وإصلاح سياسي شامل.

ليس من مصلحة أحد تسخين ملف الجنيه المصري هذه الأيام وفي هذا التوقيت الحرج بالذات، ونشر شائعات ومزاعم وتكهنات وتوقعات حول قرب تعويمه مجدداً مقابل الدولار، الاستثناء هنا طبعاً من نصيب تجار العملة، وبعض تجار الذهب، الساعين إلى عودة الاضطرابات العنيفة لسوق الصرف الأجنبي والسوق السوداء للعملة، وبالتالي تحقيق أرباح سريعة، حتى لو جاء ذلك على حساب ملايين المصريين، وقفزات أسعار السلع الغذائية والحياتية، وإرباك المشهد الاقتصادي والمالي والمصرفي كاملاً.

في تقديري، لا توجد أية مبررات ودوافع قوية هذه الأيام لتعويم الجنيه المصري للمرة السادسة خلال فترة قصيرة نسبياً لا تتجاوز ثلاث سنوات، وليس صحيحاً أن هناك مطالبات أو ضغوط عاجلة وملحة من صندوق النقد الدولي بإجراء تعويم جديد، المطلوب فقط هي مرونة أكبر لسعر الدولار، وتركه للعرض والطلب، وفق احتياجات السوق، وإبعاد التدخلات الإدارية عن السعر من قبل البنك المركزي، وهو ما يحدث حالياً، فالسعر يتحرك صعوداً وهبوطاً، وفق الاتفاق المبرم بين الحكومة والصندوق.

هناك ثلاثة مؤشرات رئيسية، إن تحققت على أرض الواقع، يمكن على أساسها التنبؤ بقرب تعويم العملة المحلية، من أبرز تلك المؤشرات سيطرة السوق السوداء على سوق الصرف الأجنبي، وتفاقم أزمة عجز أصول البنوك من النقد الأجنبي، وتراجع الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي وبلوغه مرحلة حرجة بالنسبة لتغطية الواردات والديون.

لا توجد أية مبررات ودوافع قوية هذه الأيام لتعويم الجنيه للمرة السادسة خلال فترة قصيرة نسبياً لا تتجاوز ثلاث سنوات

ومن بين المؤشرات كذلك، حدوث إقبال شديد من المدخرين على تخزين الدولار، وتعمق ظاهرة "الدولرة" التي تعني تخلص المصريين من العملة المحلية لصالح العملة الأميركية، وتوقف البنوك عن تلبية احتياجات المستوردين والتجار، ووضع قيود مشددة على استخدام بطاقات الائتمان في الخارج وغيرها. كما أن هروب الأجانب من أدوات الدين الحكومية سواء الأذون والسندات أو البورصة وبشكل جماعي يدفع بسرعة تجاه التعويم، كما جرى في الربع الأول من عام 2022.

على مستوى النقطة الأولى، فإن السوق السوداء اختفت منذ شهر مارس/آذار الماضي، وحتى لو كانت موجودة على استحياء، فإن الطلب عليها ضعيف، ولا يقارن بمستويات ما قبل التعويم الأخير، كما أنه لا يوجد حالياً فارق في سعر الدولار بين السوقين الرسمي، الممثل في البنوك، وغير الرسمي الممثل في السوق السوداء ولدى تجار العملة، بل أحياناً ما يفوق سعر البنوك السعر المتداول لدى تجارة العملة.

على مستوى النقطة الثانية، فإن أزمة عجز أصول البنوك من النقد الأجنبي انتهت أيضاً، وتحول العجز المزمن لديها إلى فائض، بسبب ضخامة النقد الأجنبي المتدفق على مصر من حصيلة صفقة رأس الحكمة والقروض والمنح والأموال الساخنة التي تجاوزت قيمتها 32.7 مليار دولار في مارس الماضي.

ووفق أرقام البنك المركزي المصري، فإن الدولة نجحت بالفعل في تحويل عجز صافي الأصول الأجنبية إلى فائض بنحو 14.29 مليار دولار في نهاية شهر مايو الماضي للمرة الأولى منذ 28 شهراً، علماً بأن صافي الأصول الأجنبية تحول إلى أزمة كبيرة لصانع القرار حيث كان سالب 837.3 مليار جنيه (27.1 مليار دولار) بنهاية العام الماضي، وهذه نقطة شكلت خطراً شديداً على أموال المودعين في بعض الأوقات، خاصة أن البنك المركزي استخدم تلك الأموال في دعم قيمة الجنيه ونفخه على غير الحقيقة في سنوات سابقة، وهذه كانت كارثة في حد ذاتها.

الاحتياطي الأجنبي يدعم الجنيه المصري

أما بالنسبة للنقطة الثالثة المتعلقة باحتياطي النقد الأجنبي، فإن البنك المركزي بات يمتلك احتياطياً مريحاً لتغطية أعباء الديون الخارجية، فقد ارتفع الاحتياطي بنحو 32% خلال أول 7 أشهر من العام الجاري، ليصل إلى 46.489 مليار دولار بنهاية يوليو 2024، مقابل 35.220 مليار دولار بنهاية 2023، بزيادة 11.269 مليار دولار.

الدولة نجحت بالفعل في تحويل عجز صافي الأصول الأجنبية إلى فائض بنحو 14.29 مليار دولار في نهاية شهر مايو الماضي للمرة الأولى منذ 28 شهراً

يدعم تلك النقاط الثلاثة التي تستبعد تعويماً للجنيه المصري على الأقل خلال العام الجاري، تراجع الدين الخارجي لمصر بنحو 14.17 مليار دولار، ليسجل 153.86 مليار دولار في نهاية مايو الماضي، بسبب تدفقات رأس الحكمة وتحويل الإمارات دينها لدى الدولة لصالح الصفقة.

لا أحد ينكر حجم وعمق أزمة مصر الاقتصادية، واستمرار الضغوط الشديدة على العملة المصرية ومبررات التسخين عليه من وقت لأخر، خاصة من عدة زوايا، أخطرها على الإطلاق ضخامة أعباء الدين الخارجي، وتغلغل الأموال الساخنة داخل شرايين الاقتصاد وأروقة البنوك، وتراجع إيرادات أنشطة حيوية مثل قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج، وضخامة الفجوة التمويلية، والعجز المريع في الميزان التجاري، وفاتورة الواردت، وتبعات المخاطر الجيوسياسية في المنطقة

ولذا فإن الحذر مطلوب، وعلى السلطات الحاكمة اتخاذ خطوات جدية وسريعة لخفض منسوب تلك الضغوط حتى لا تضع الجنيه المصري في فوهة التعويم مجدداً، وبعدها لن يجدي الندم، وبداية الحل هي وقف الحصول على قروض خارجية جديدة على الفور، ووقف إساءة استخدام الموارد الدولارية المتاحة، والتفاوض مع الدائنين على تحويل ديونهم إلى استثمارات مباشرة وليس شراء أصول، وهناك فارق كبير بين الأمرين، والتوقف عن التفريط في أصول الدولة، والتوقف كذلك عن الانفاق الاستثماري الضخم على مشروعات كبرى لا تمثل أولوية للاقتصاد أو المواطن ولا تحقق عوائد، وأحيانا ما تكون وهمية، وتطبيق برنامج اقتصادي حقيقي، لا مفتعل ودعائي وخادع للرأي العام، والبدء فورا في تطبيق برنامج إصلاح سياسي شامل وعميق.

المساهمون