يسدل 2022 الستار على العملة التركية وسط تراجع حاد وعدم يقين بشأن العام الجديد، الذي يشهد انتخابات برلمانية ورئاسية أكثر ترقباً من مثيلاتها في سنوات طويلة ماضية. وفيما ساهم ضعف الليرة في حصد تركيا مكاسب لافتة من زيادة الصادرات والسياحة، تسبب تراجعها المستمر في موجة غلاء هي الأشرس في نحو ربع قرن ما تسبب في ضيق معيشي وفوضى في الأعمال التجارية ونقص في بعض السلع بالأسواق.
تغلق الليرة العام، عند نحو 18.7 للدولار الواحد، لتبلغ خسائرها حوالي 30%، بعدما دخلت 2022 عند مستوى 13.5 ليرة للدولار، بينما كانت قد فقدت نحو 44% من قيمتها في العام السابق عليه، لتدخل ضمن أكثر عملات الدول الناشئة خسارة.
وضغط الهبوط الحاد للعملة الوطنية على معدل التضخم الذي سجل قفزات كبيرة، ليصل إلى 85.1% خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أن يتباطأ قليلاً ويسجل 84.39% في نوفمبر/تشرين الثاني، بينما استهل العام عند مستوى 48.6% في حين كان قد أنهى عام 2021 عند 36.08%، ما أثقل العبء على المستهلكين، إذ تجاوزت أسعار العديد من السلع الأساسية 110%، بحسب مؤشرات الأسواق ومراقبين.
يعزو محللون تراجع سعر الصرف إلى تصميم البنك المركزي على خفض سعر الفائدة، رغم التوجه العالمي لرفعها خلال العام الجاري لامتصاص التضخم الناجم بالأساس عن صعود أسعار الطاقة والسلع الرئيسية في الأسواق العالمية في أعقاب اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا نهاية فبراير/ شباط الماضي.
واستقر سعر الفائدة عند 9% بعد أربعة تخفيضات مقابل 14% منتصف 2022، بينما كانت قد مرت بالأساس بحالة تذبذب منذ مايو/أيار 2020 وقت جرى خفضها من 11.25% إلى 8.25%، لكنها سرعان ما عادت إلى الصعود لتصل إلى 17% في الأشهر الأخيرة من ذلك العام ومن ثم إلى 19% في مارس/آذار 2021، ما دفع الرئيس التركي، رحب طيب أردوغان إلى إجراء تغييرات في قيادات البنك المركزي وسط إصرار على خفض أسعار الفائدة لتعزيز نمو الاقتصاد.
وفي مقابل تأثير خفض سعر الفائدة على وضع الليرة سلباً، لجأت الحكومة، إلى نظام الوديعة المحمية، لكبح المضاربات في الدولار وكبح صعوده إلى مستويات أعلى، لكن هذه السياسة كلفت تركيا مبالغ كبيرة، وفق البيانات الرسمية.
وبلغت مدفوعات الدولة لتعويض خسائر أصحاب الحسابات المحمية 91.5 مليار ليرة تركية، اعتباراً من مارس/ آذار الماضي، عندما سددت الدفعات الأولى، ولم يُكشف عن المبلغ الذي دفعه البنك المركزي مقابل حسابات تحويل العملات الأجنبية.
ورغم الضغوط المعيشية الكبيرة التي واجهها المواطنون جراء الغلاء، إلا أن العديد من مؤشرات الاقتصاد سجلت أداءً إيجابيا، لاسيما على صعيد الصادرات والسياحة مستفيدة من هبوط سعر العملة الذي ساهم في زيادة تنافسية السلع التركية في الأسواق العالمية وعزز من إغراء الزوار، ما دعا مسؤولين حكوميين وخبراء اقتصاد إلى الإعراب عن تفاؤلهم بإمكانية انخفاض التضخم وانتعاش الأسواق في العام الجديد.
يقول الخبير الاقتصادي التركي، يوسف كاتب أوغلو لـ"العربي الجديد" إن بلاده استفادت من تراجع سعر العملة، في مجالات كثيرة، أهمها السياحة والصادرات، لكنها خسرت على صعيد تضخم الأسعار وتراجع مستوى المعيشة، معتبراً أنّ تراجع سعر الليرة المستمر وتذبذبها يعودان إلى "استهداف خارجي" أثر على جذب الاستثمارات الأجنبية.
ويرى فراس شعبو أستاذ المالية في جامعة باشاك شهير بإسطنبول، أنّ "أداء الليرة كان جيداً خلال 2022 بالمقارنة مع التوقعات التي تنبأت بتهاويها إلى ما دون 22 ليرة مقابل الدولار، بالنظر للآثار الدولية لغلاء الأسعار ونتائج الحرب الروسية في أوكرانيا والتضخم الذي لفّ دول العالم".
ويضيف شعبو لـ"العربي الجديد" أنّ "الحكومة استطاعت ولو نسبياً وضع كرة التضخم على طريق العودة، بعد الارتفاع الكبير وتجاوز النسبة 85%"، مشيراً إلى أنّ تراجع سعر الليرة لم يؤثر على نسبة النمو، لتسجل تركيا مستويات هي الأعلى بين دول العشرين العام الماضي، بنسبة نمو 11%، وتحافظ على النمو هذا العام رغم الأزمات الدولية وغلاء الأسعار، بنسبة تقدر بنحو 5.3% وتوقعات بتحقيق 3% في 2023، بحسب توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن الاقتصاد التركي. ويلفت إلى أنّ تركيا عوضت النقص في احتياطي النقد الأجنبي، من 92 مليار دولار نهاية 2021، ليصل إلى 129 مليار دولار حالياً، كما رفعت احتياطيها من الذهب كثيراً إلى 602 طن لتبلغ المركز العاشر كأكبر احتياطي من الذهب عالمياً.
ولا ينكر أستاذ المالية في جامعة باشاك شهير، أثر تراجع وتذبذب سعر الليرة على الاستثمارات الخارجية، أو على المستهلك المحلي، إذ أدى ذلك إلى تراجع الاستهلاك والقدرة الشرائية، ما دفع الحكومة للتدخل برفع الأجور ثلاث مرات خلال عام واحد لتعويض العاملين. لكنّ العملة الرخيصة برأي الخبير الاقتصادي التركي مسلم أويصال، انعكست إيجاباً على استمرار نسبة النمو، لافتاً في تصريحات لـ"العربي الجديد" إلى أنّ مؤشرات نهاية العام تتوقع وصول الصادرات إلى 300 مليار دولار.
وكان رئيس مجلس المصدرين الأتراك، إسماعيل غولّة، قد توقع خلال اجتماعات "منتدى إسطنبول" في وقت سابق من ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن تحقق الصادرات 400 مليار دولار بحلول 2026، وتصل إلى 500 مليار دولار في 2030، بعد وصولها إلى 300 مليار دولار بنهاية 2022.
كما انعكس هبوط الليرة إيجاباً على السياحة، وفق أويصال، إذ بلغ عدد الزائرين نحو 45 مليوناً حتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، متوقعا الوصول إلى مستويات ما قبل كورونا، حيث سجلت البلاد توافد ملايين السياح في 2019 بعائدات 34.5 مليار دولار.
لكنّ مواطنين كثيرين يشكون من عدم انعكاس المؤشرات الاقتصادية التي تسوقها الحكومة وخبراء اقتصاد على معيشتهم اليومية في ظل الغلاء الذي وصل إلى ذروته في نحو ربع قرن هذا العام.
وأعلن الرئيس رجب طيب أردوغان، نهاية الأسبوع الماضي، عن رفع الحد الأدنى الصافي للأجور إلى 8500 ليرة، بزيادة بلغت نسبتها 54.6% مقارنة بشهر يوليو/تموز 2022، و100% مقارنة بيناير/كانون الثاني من نفس العام، مشيراً إلى إمكانية زيادة الحد الأدنى للرواتب مرة أخرى على مدار العام المقبل "إذا لزم الأمر".
لكنّ أحزاب المعارضة و"اتحاد نقابات العمال"، اعتبروا أنّ "الحد الأدنى الجديد لا يلبي الظروف المعيشية للموظفين وعائلاتهم، في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية". وقال اتحاد النقابات، في بيان أخيراً، إنّه "ينبغي اتخاذ تدابير لحماية القوة الشرائية للموظفين".