صانع السياسة الاقتصادية في تركيا في وضع لا يُحسد عليه، ففي الوقت الذي تستمر فيه موجة التضخم، الناتجة عن انخفاض سعر العملة المحلية منذ ديسمبر/كانون الأول 2021، ترتفع فيه أسعار النفط في السوق الدولية، لتزيد عن 90 دولارا للبرميل.
هو أمر مزعج لتركيا التي تستورد أكثر من 90% من احتياجاتها من النفط، ومن شأن تزامن الحدثين أن يُبقي معدلات التضخم مرتفعة، ويد صانع السياسة الاقتصادية مقيدة لمواجهة تحدي التضخم.
وحسب تقديرات البنك المركزي التركي، فقد بلغ معدل التضخم في يناير/كانون الثاني 2021 نسبة 48%، ويتوقع البنك أن تزيد هذه المعدلات لتصل إلى 55% في مايو/أيار المقبل، ثم تشهد تراجعًا حادًا، وهو أمر طبيعي، فموجة التضخم الناتجة عن انخفاض سعر الليرة، والتي بدأت في ديسمبر 2021، لا بد أن تستغرق نحو 6 أشهر، لتنتهي من تداعياتها السلبية، ثم تستقر الأمور عند الوضع الطبيعي، ليعود التضخم إلى معدلات مقبولة.
ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فارتفاع أسعار النفط كمكون رئيسي لاحتمالات بقاء معدلات التضخم عالية في تركيا خلال الفترة القادمة، مستمر بسبب التوترات الإقليمية وكذلك على الساحة الدولية، فممارسات الحوثيين من توجيه ضربات للعمق الإماراتي والسعودي، من شأنها أن تزيد من التوترات في المنطقة.
وكذلك حالة عدم الاستقرار السياسي في ليبيا واحتمالات تزايد الأعمال القتالية من شأنها أن تبقى حالة التوتر المؤثر على أسعار النفط. وأيضا تصاعد حدة الأزمة في أوكرانيا، واحتمالات التدخل العسكري الروسي هناك، من شأنها أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط.
خفض الضرائب
أسفرت النتائج الخاصة بتحليل نسب ارتفاع معدل التضخم في تركيا خلال يناير 2022، والتي أعلنها معهد الإحصاء التركي، عن أن نصيب السلع الغذائية كان أعلى القطاعات التي شهدت ارتفاعًا في الأسعار، وساهمت في رفع معدل التضخم خلال الشهر، حيث بلغت نسبة التضخم في قطاع الطعام والشراب 55.6%، وهي النسبة الأعلى من كل القطاعات الأخرى، باستثناء قطاع المواصلات الذي شهد نسبة تضخم قدرها 68.8%.
من هنا، أصدر الرئيس رجب طيب أردوغان قرارًا بتخفيض نسبة ضريبة القيمة المضافة على السلع الغذائية الأساسية من 8% إلى 1%، وذلك يوم السبت الموافق 12 فبراير/شباط 2022، وهو قرار من شأنه أن يخفف من حدة غضب المواطنين، الذين زادت شكواهم من الغلاء على مدار الشهور الماضية.
وينطبق ذلك خصوصاً على الطعام والشراب، وهو أمر له دلالات واضحة، حيث شوهدت الأسواق الشعبية التي تقام داخل أحياء إسطنبول، أقل ازدحامًا خلال الأيام الماضية، بسبب ارتفاع أسعار الغذاء.
والمعلوم أن تركيا من الدول المنتجة للغذاء، بل والمصدرة له، سواء ما يتعلق بالسلع الغذائية أو الصناعات الغذائية، فالأرقام تشير إلى أن قيمة الإنتاج الزراعي لتركيا عام 2019 بلغت 48.5 مليار دولار، لتتصدر قائمة الدول الأوروبية في هذا المجال، ولتكون في المرتبة السابعة عالميًا.
وخلال عام 2020، على الرغم من وقوع جائحة كورونا، فقد زادت قيمة الإنتاج الزراعي في تركيا بنسبة 20%، وهو ما أعطى الحكومة التركية، فسحة في مواجهة التداعيات السلبية للجائحة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، على خلاف دول أخرى عانت من عجز في الإمدادات الخاصة بالغذاء، نتيجة ما اعترى قطاع سلاسل الإمداد من تعطيل، وارتفاع في التكاليف.
وكون الأسعار لقطاع الطعام والشراب ترتفع بهذه النسبة الكبيرة 55.6% خلال شهر يناير 2022، فمعنى ذلك أن الأسباب كانت أكبر من الأدوات التي يمكن للحكومة أن تتصرف في حدودها.
ولكن قرار تخفيض الضرائب الخاصة بالقيمة المضافة، سوف يسهم بلا شك في تخفيض أسعار السلع الغذائية التي ستطبق عليها نسبة التخفيض، وهو ما سيخفف من أعباء المعيشة على المواطنين إلى حد ما.
ولكن يبقى أمر مهم، وهو مدى سيطرة الحكومة التركية على تنفيذ هذا القرار وإنفاذه لدى متاجر السلسلة التي تنتشر في تركيا، وكذلك باقي الأسواق الشعبية، حتى لا تكون الاستفادة لصالح التجار، ويحرم منها المواطنون.
فعلى مدار الشهور الماضية، تم توقيع عقوبات مالية بمليارات الليرات على متاجر السلسلة الكبرى في تركيا، بسبب استغلالها لأزمة انخفاض سعر الليرة، ورفعها للأسعار إما بدون مبرر، أو بنسب أعلى مما ينبغي.
تداعيات القرار الحكومي
بلا شك أن أي قرار يتعلق بالجوانب الاقتصادية، يكون له نواح إيجابية وأخرى سلبية، ولكن تظل العبرة بمدى تحقيق المصلحة العامة، وإن تضرر من القرار البعض. فمثل هذا القرار الخاص بتخفيض قيمة ضريبة القيمة المضافة على السلع الغذائية الأساسية، من شأنه أن يؤثر سلبا على العوائد الضريبية، التي تمول الموازنة العامة للدولة.
ولكن على الجانب الآخر، فإن المستفيدين من هذا القرار قطاعات عريضة من الشعب، سوف تتمكن من استعادة معدلات استهلاكها من الطعام والشراب، بأسعار أفضل مما كانت عليه خلال الفترة من بداية 2022 وحتى صدور قرار التخفيض.
وثمة آثار إيجابية تتعلق بتحسين صورة الحكومة أمام المجتمع، كونها اهتمت بقضايا الناس الحقيقية والضرورية، وكذلك تنزع الحكومة إحدى أدوات المعارضة، التي ظلت خلال الأيام الماضية تستخدمها في الهجوم على الحكومة التركية والرئيس أردوغان.
الشعب ينتظر المزيد
تمثل الضرائب إحدى الأدوات المالية المهمة، التي يمكن أن تحقق أهدافًا اقتصادية واجتماعية، يكون لها مردود سياسي، يؤدي إلى المزيد من التأييد أو الانصراف من قبل الشعب تجاه الحكومات.
وفي الحالة التركية، كون الحكومة تملك إمكانية التصرف في هوامش مقبولة في ما يتعلق بالضرائب، خاصة في واحد من أنواع الضرائب غير المباشرة، ولكنها تنعكس بشكل سريع على حياة الناس إيجابيًا.
فقد يكون من المفيد أن تتجه الحكومة لتفعيل نفس الآلية في قطاع المواصلات، بحيث يتمتع بإعفاء ضريبي، يعود على المواطن إيجابا بتخفيض تكلفة المواصلات. فحسب بيانات معهد الإحصاء التركي، فقد كان قطاع المواصلات هو الأعلى بين مكونات سلة التضخم، حيث بلغت نسبة الزيادة في أسعاره 68.8%.
هامش المناورة المالية
تظل مساحات الحركة، وتوفير الحيز المالي لدى صانع السياسة الاقتصادية، متاحة، إذا تمتع الاقتصاد القومي بمكونات متنوعة، كما هو الحال في تركيا، فأحدث البيانات التي نشرت عن أداء قطاع السياحة التركي في عام 2021، تبين أن عوائد القطاع بلغت 24.4 مليار دولار، مقارنة بنحو 12.1 مليار دولار في عام 2020، وهو ما يعني أن العوائد تضاعفت بالفعل، ويتوقع أن تزيد عوائد هذا القطاع خلال عام 2022، نظرًا لزيادة الحركة السياحية، واتخاذ تركيا العديد من الإجراءات الوقائية.
وهو ما يعني زيادة ما تتحصل عليه الحكومة التركية من رسوم لزيارة الأماكن السياحية، أو الضرائب التي ستحصلها من القطاع السياحي، ويمكن أن تعطي الحكومة حرية في الحركة، لتخفيف حدة التضخم، إلى أن تنقضي الآثار السلبية لتداعيات أزمة انخفاض قيمة العملة، وبالتالي فمساحات الإعفاء الضريبي في قطاعات متعددة، خاصة في مجال ضريبة القيمة المضافة ممكنة.
إن قرار خفض ضريبة القيمة المضافة على السلع الغذائية الأساسية بنسبة 1% بدلًا من 8%، يتسم بإيجابية، ولكن كان من الأفضل صدوره في بداية ديسمبر 2021، ليقلل من حدة نسبة ارتفاع التضخم، التي كانت صادمة للمجتمع التركي.