أطلقت السلطات القضائية التركية، الخميس، عملية تحقيق واسعة في ما وصف بأنها "أكبر" عملية احتيال مالي في تاريخ الجمهورية، نفذتها شركة "ثودكس" Thodex للعملات الرقمية وبلغت قيمتها نحو ملياري دولار، ووقع ضحيتها 391 ألف عميل.
ووفق المعلومات المتوافرة، فقد هرب مؤسس ورئيس شركة "ثودكس" للعملات الرقمية، فاروق فاتح أوزر، إلى خارج البلاد في 20 إبريل/نيسان الجاري إلى العاصمة الألبانية تيرانا، فيما قالت مصادر أخرى إنه سافر إلى تايلاند، وفق وسائل إعلام محلية نشرت صوره أثناء مغادرته مطار إسطنبول، في ظل عدم تمكن العملاء من الوصول إلى موقع الشركة وحساباتهم أو استخدام التطبيق الخاص بالشركة التي صنفت نفسها على أنها بورصة مالية رقمية.
وبحسب مصادر تحدثت مع "العربي الجديد"، فإن الشركة التي لديها 400 ألف مشترك، و391 ألف حساب نشط، بدأت تتكشف قصة احتيالها عندما توقف عمل الموقع الإلكتروني للشركة، الإثنين الماضي، وتوقفت عملية وصول المستثمرين إلى حساباتهم لاحقا، ليتم التواصل مع محامي الشركة الذين أفادوا بأن الموقع يعيش منذ عدة أيام مشاكل متعددة في تحويل الأموال، ليتم إغلاق الموقع بشكل كامل في ما بعد.
ورافق ذلك إغلاق كامل لحسابات مؤسس الشركة أوزر على موقعي التواصل الاجتماعي تويتر وإنستغرام، في وقت نشرت فيه الشركة بيانا أفادت فيه بأن "عملية نقل الملكية للمستثمرين الجدد ستؤدي إلى توقف الموقع لمدة 6 ساعات".
وأعقب ذلك بيان آخر، ليلة أمس، يفيد بأن هذه العملية قد تستغرق 4 إلى 5 أيام، مذكراً بـ"الاهتمام الذي لقيته استثمارات الشركة في العامين الأخيرين ودخول قطاعات أخرى لبنية الشركة، جعلها تضطر للإقدام على خطوات توسعية جديدة، وسنعلن عن أسماء المستثمرين لاحقا، حيث إن هناك اهتماما عالميا كبيرا بالشراكة مع الشركة، ومن أجل تقديم خدمات أفضل للعملاء مع الشراكات الجديدة، ستتوقف الأعمال نحو خمسة أيام، وسيتم إبلاغ العملاء بانتظام بالتطورات في عمل الموقع"، وفق البيان الصادر عن الشركة.
هذه البيانات الغامضة أرقت المستثمرين الذين علموا في ما بعد، بمغادرة مالك الشركة للبلاد، ليبدأوا بتقديم شكاوى بأعداد كبيرة للنيابة العامة في الولايات التي يقيمون بها، فيما أطلقت النيابة العامة في إسطنبول بدورها عملية تحقيق في القضية، تحت بند "تشكيل عصابة منظمة لارتكاب الجرائم"، و"الاحتيال النوعي"، وتم إرسال قوات الشرطة لتفتيش مقر الشركة في مدينة إسطنبول، الخميس، التي غادرتها لاحقا بعدما وجدت مكاتب الشركة مغلقة ولا يوجد أحد فيها من الموظفين، وعلم لاحقا أنه بسبب وباء كورونا يعمل الموظفون عن بعد، دون حضورهم إلى مقر الشركة، وأن هناك 30 إلى 40 موظفاً يعملون بالشركة.
وشهدت الأيام الماضية قيام عدد من العملاء بالتواصل مع الشركة، لكن دون جدوى، فيما أفادت معلومات من إدارة المقر التجاري بأن الأيام السابقة شهدت إخراج صناديق كرتونية من الشركة دون الشعور بوجود أي شبهة في ذلك، في حين أن الحدث لاقى صدى كبيراً لدى الشارع التركي، وتصدر الترند في وسائل التواصل الاجتماعي منذ يومين.
وذكّرت قضية الاحتيال تلك بقصة نصب أخرى وقعت قبل سنوات من قبل الشاب التركي محمد آيدن، الذي جمع أموال 132 ألف مواطن لاستثمارها في مشروع زراعي حيواني، إلا أنه فر بعد جمعه 1.140 مليار ليرة تركية (1 دولار يعادل 8.28 ليرات)، ونشر لاحقاً صوراً في عدد من دول العالم ومنها أميركا اللاتينية وهو في يخت فاخر، ويتجول في أماكن فارهة.
شركة "ثودكس" أو بورصة Thodex كما يطلق عليها مؤسسوها، تأسست في العام 2017، وفي الفترة الأخيرة حققت أرباحاً كبيرة، وفق أرقام بورصات عملة رقمية عالمية، وفي الـ17 من الشهر الجاري، كشفت أرقام بورصات "كوين ماركت كاب"، و"كوينغيسكو"، أن شركة "ثودكس" حققت حجم أعمال بلغ مليارين و334 مليون دولار، وهو رقم قياسي في 3 أشهر وبفارق كبير جداً.
وفي آخر أرقام "كوين ماركت كاب"، فإن أعمال بورصة "ثودكس" التركية تركزت 53% منها بأعمال دوجي كوين، و3% بيتكوين، و3.3% لايتكوين، و7.4% ريبل، و13% تيثر، كما أن الشركة قدمت عرضا، الشهر الماضي، بأنها تقدم مليونين من عملات دوجي كوين هدية للعملاء الجدد، بواقع 150 عملة لكل مشترك جديد، كما أنها عرضت سيارة بورش هدية للمشتركين والمستثمرين سابقا.
ومن اللافت أيضاً أن عملية الاحتيال الواسعة النطاق تلك، جاءت بعد أيام قليلة من حظر المصرف المركزي التركي تداول العملات الرقمية في البلاد، لما تحمله من مخاطر على الممتلكات والموجودات المالية، وعدم خضوعها للرقابة والقوانين والقيود، وعدم وجود ممثل لها، وغياب إمكانية الحصول على المعلومات المطلوبة من هذه البورصات والشركات، مع ما تحمل أيضا من مخاطر على الأطراف المستثمرة، وخسائر لا يمكن أن تعوض، ما يجعلها خيارا غير آمن في التعاملات المالية، بحسب إعلان المصرف المركزي.
واعتبرت المعارضة التركية أن الحكومة مسؤولة عن عدم مراقبة الشركة، التي استقطبت عدداً كبيراً من المستثمرين بوقت سريع، حيث أفاد المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزل، في تصريح صحافي، بأن "الحكومة من الواجب عليها مراقبة أي كثافة تحصل عندما يتم جمع الأموال بهذه الطريقة، لأن شبهات كبيرة بالفساد تحوم حولها".
وذكّر تعامل الشركة مع 8 من مشاهير تركيا من السيدات عند إعداد إعلان الشركة وقت التأسيس، بالفيلم العالمي الشهير "أوشن8"، حيث كانت قصة الفيلم أيضا تتضمن عملية سرقة جواهر، وكان من بطولة الممثلة العالمية ساندرا بيلوسي وكيت بلانكت، حيث كان إعلان الشركة التركية عبارة عن المشاهير الثمانية من السيدات يرتدين اللباس الأحمر المثير أمام سيارات فارهة، ما دفع بعض المراقبين للحديث عن محاكاة بين عملية الاحتيال والفيلم الشهير، في وقت كان هناك اهتمام إعلامي عالمي بالقضية وتطوراتها.
الكاتب في قضايا الاقتصاد نجدت تشالشكان، نقل عبر صحيفة "خبر تورك" أن "بورصة ثودكس"، وفق المعطيات المتوفرة والتي تمت متابعتها، أظهرت أن "نصف عمليات الشراء والبيع التي جرت في الـ17 من الشهر الجاري، وكانت بالنسبة للشركة رقما قياسيا، شهدت بيع حصة العملات الرقمية من دجي كوين بأقل من سعرها بما يعادل نسبة 30%، أي أن سعر العملة الواحدة التي بيعت كانت قيمتها الفعلية في الأسواق 0.30 دولار، فيما باعتها الشركة التركية بقيمة 0.20% لتحقق مبيعات بقيمة 489 مليون دولار، وهذا ما يشير إلى أن عملية البيع بهذه الطريقة من المؤشرات الواضحة والدالة على وجود النية المسبقة بعملية الاحتيال".
الصحافي التركي إسماعيل جوكتان، قال لـ"العربي الجديد"، إن "أغلب المؤشرات تشير حتى الآن إلى وجود حالة من الاحتيال، رغم أن محامي الشركة حاول إعطاء انطباع بأن الأجواء الحالية طبيعية، وأن هذا الأمر غير صحيح.
ويبني جوكتان رأيه على عدة معطيات، منها أن رئيس الشركة موجود حاليا خارج البلاد، حيث إن مئات من العملاء والمشتركين حاولوا التواصل مع أي موظف أو مسؤول دون تمكنهم من ذلك في ظل تعطل وسائل التواصل، من تطبيقات وموقع إلكتروني ووسائل التواصل التقليدية".
وأضاف أن "الشارع التركي ميال للربح الفوري ويرغب باستثمار أمواله بطريقة الكسب السريع، فتم استغلال هذه الثغرة بتقديم إغراءات كبيرة له، خاصة أن العملات الرقمية تحقق نوعا ما إحساسا بالاستقلالية، ولكن بالطبع هناك مخاطر تتعلق بها، ومن أجل هذه المخاطر حظر المصرف المركزي التعامل بهذه العملات، وينتظر أن تكون هناك بيانات صادرة عن الحكومة والقضاء الذي يتابع القضية.
ومهما تكن النتائج إلا أن تجارة العملات الرقمية في تركيا تعرضت إلى انتكاسة كبرى بسبب هذه القضية، حسب الصحافي التركي، الذي يؤكد أن الانتكاسة ستقلل من الثقة لدى الشارع والمستثمرين وأصحاب الأموال بتلك العملات المشفرة، وربما تعلن نهاية تجارة العملات الرقمية فعليا من قبل الأتراك، خاصة في ظل منعها من التداول من قبل المصرف المركزي والمخاطر الكبرى المتعلقة بها.
ونقلت وسائل إعلام تركية عن مجلس الرقابة المالية التابع لوزارة الخزانة والمالية التركية، تجميده اعتبارا من الليلة الماضية جميع الحسابات المالية التي تعود لشركة "ثودكس" في تركيا، وإجراء التحقيق بحق الشركة ومالكها "أوزر"، بعد البلاغات المقدمة للنيابة العامة.
بيان صاحب الشركة
وفي وقت لاحق وعقب بدء عمليات التفتيش بمقر الشركة والتحقيق بالقضية من قبل النيابة العامة، نشر الموقع الإلكتروني للشركة بيانا باسم مالكها "أوزر" جاء فيه أن "المزاعم التي يتم تداولها أغلبها غير صحيح، وأن الشركة لم تغدر بأي أحد من عملائها، ولم تحملهم خسائر بلغت 25 مليون ليرة تركية في العام 2018 بسبب هجمات إلكترونية، وهذه الهجمات قادت الشركة لتحصين منصاتها الرقمية، ومع ازدياد طلب العملاء والشراكات حصلت اضطرابات غير متوقعة في عمل الموقع والحسابات منذ 3 أشهر، ولمعرفة حقيقة ما يجري تم إيقاف الأعمال في المنصات مؤقتا، وخلال الأعمال الفنية لمتابعة وضع المنصة الرقمية تواجدتُ خارج البلاد".
وأضاف أن "التدقيق في الحسابات أظهر عدم تمكن بعض المشتركين من الوصول لحساباتهم بسبب القرصنة، ومزاعم الاحتيال بمبلغ ملياري دولار على 391 ألف مشترك غير صحيحة، حيث إن المشاكل عانى منها قرابة 30 ألف مشترك فقط، ولكن رصيدهم موجود في حسابات الشركة ولن يتضرر أي مشترك، وأن الشركة عرضت ما لديها لوزارة المالية والخزانة ولا توجد أي عمليات غير قانونية وكل شيء موثق تماما"، متهما "أطرافا (لم يسمها) بمحاولة استهداف الشركة التي فقدت من قيمتها كثيرا بسبب هذه الحملة بعد أن بلغت قيمتها السوقية نحو 40 مليون دولار"، وتعهد "أوزر" بأنه "سيعود إلى البلاد بعد عدة أيام وسيتعاون بكل ما يملك مع السلطات القضائية لحين صدور الحقائق، وأنه في حياته لم يقدم على خطوات ضد الدولة والشعب".
لا تأثير في البورصة
هذه الحادثة التي أقلقت الشارع التركي والمستثمرين لم تترك أثرها بالشكل الكبير على البورصة التركية، حي واصلت البورصة عملها بشكل طبيعي مع تبادل عمليات البيع والشراء محققة ارتفاعا طفيفا بنحو 0.8%، فيما شهدت قيمة العملة التركية تراجعا أمام العملات الأجنبية حيث انخفضت قيمة الليرة التركية أمام الدولار بنسبة 1.58 لتسجل 8.3 ليرات للدولار الواحد، فيما انخفضت قيمة الليرة التركية أمام اليورو بما يعادل 1.48% مسجلة 10.01 ليرات مقابل واحد يورو.