طوال السنوات الماضية، ظلت الصورة الذهنية للسعودية لدى المستثمر الأجنبي هي أن المملكة تتمتع باستقرار سياسي قوي، خاصة على مستوى نظام الحكم، وكذا تتمتع باستقرار أمني ملحوظ، رغم المخاطر المتعاقبة التي كانت تحيط بالمملكة، خاصة من جهة إيران والعراق.
صاحب ذلك استقرار اقتصادي ومالي برز في تكوين فوائض مالية كبيرة، خاصة في فترات قفزات أسعار النفط في الأسواق العالمية، وامتلاك المملكة احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي تجاوزت 760 مليار دولار في عام 2014، واستقرار ملحوظ في سعر صرف الريال السعودي أمام الدولار، حيث ظلت العملة المحلية شبه ثابتة على مدى الثلاثين سنة الماضية، ومن هنا تدفقت رؤوس الأموال الأجنبية على السعودية، خاصة في قطاعات النفط والطاقة والبنوك والقطاع المالي والاتصالات، كما تدفقت في وقت لاحق على قطاع الخدمات والسياحة وغيرها.
لكن يبدو أن هذه الصورة النمطية تتغير الآن، فعقب الاعتقالات الأخيرة لأمراء ورجال أعمال قريبين من نظام الحكم وعزل الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد وتصعيد محمد بن سلمان بدلا منه، بات السؤال الذين يتردد على ألسنة المستثمرين الأجانب وأصحاب السندات وممثلي المؤسسات المالية الدولية: هل هذه هي السعودية التي نعرفها، هل تغيرت الصورة النمطية التقليدية التي نعرفها عن المملكة، ما حقيقة الاستقرار في نظام الحكم في ظل إزاحة ولي العهد السابق والحديث عن انتقال السلطة من آل سعود إلى آل سلمان؟
بل إن السؤال الأخطر لمجتمع الأعمال المحلي والأجنبي هو: هل ستشهد المملكة موجة عنيفة من تأميم المشروعات الخاصة ومصادرة الأموال، وذلك لأول مرة في تاريخها؟ وهل سيتم اعتقال مزيد من كبار رجال الأعمال المسيطرين على المشهد الاقتصادي؟
السؤال حول المستقبل انتقل من مجرد طرح أسئلة إلى فعل، حيث تحرك عدد من رجال الأعمال نحو تحويل أموالهم من البنوك للخارج خوفا من مصادرتها بعد تجميد 1700 حساب مصرفي لأمراء ووزراء حاليين وسابقين ورجال أعمال، وقيام عدد من هؤلاء المستثمرين بالتفكير، ولأول مرة، في بيع أصولهم الاستثمارية، سواء الموجودة داخل المملكة أو في دول الخليج خوفاً من أن تمتد يد المصادرة لها، خاصة عقب تحرك البنك المركزي الإماراتي للاستعلام عن حسابات مصرفية مملوكة لـ19 من الأمراء ورجال الأعمال المعتقلين في السجون السعودية.
وكان في مقدمة رجال الأعمال الذين سعوا لتحويل أموالهم أو بيع أصولهم هؤلاء الذين يعرفون أن عليهم علامات استفهام تتعلق بكيفية تكوين الثروات الضخمة التي يمتلكونها، أو هناك ملاحظات على أسلوبهم في إدارة أنشطتهم الاقتصادية ولجوء بعضهم لأساليب لا أخلاقية في الحصول على الصفقات الحكومية مثل ارتكاب جرائم غسل أموال وتقديم رشى وابتزاز مسؤولين واستغلال المنصب العام لتحقيق مكاسب شخصية، وهي نفس التهم التي يحاكم بشأنها عشرات من أفراد الأسرة الحاكمة ومسؤولين ورجال أعمال بارزين في الحملة.
إذن، هناك حالة قلق بين المستثمرين لم تعرفها السعودية من قبل، ومنذ السبت الماضي عرفت المملكة ولأول مرة ما اصطلح على تسميته في العلوم السياسية والاقتصادية بحالة الضباب السياسي والغموض، وهي الحالة الطاردة لأي استثمارات محلية أو أجنبية، ذلك لأن انتشار هذه الحالة في مجتمع ما تجعل المستثمر غير واثق في مستقبل البلد وفرص الاستثمار به.
هنا يتساءل المستثمر: ماذا سيحدث غدا وربما اليوم، فلا يجد إجابة محددة، يسأل من حوله: ما الهدف من حملة الحكومة السعودية الحالية التي تحمل عنوانا براقا هو "مكافحة الفساد"، ما أمد الحملة، ومتى تنتهي، هل ستتواصل الاعتقالات، من هم المعتقلون الجدد، هل هذه الحملة بهدف ملاحقة الفسدة حقاً واسترداد مليارات الريالات من أموال الدولة المنهوبة منذ سنوات طويلة، أم أنها بهدف الانتقام السياسي وإسكات أي صوت يعارض تصعيد ولي العهد الحالي محمد بن سلمان لمنصب الملك؟
وبخلق أو استدعاء حالة الضبابية السياسية والغموض للمجتمع السعودي تتعمق أزمة الاقتصاد المحلي وتتراكم الضغوط على قطاعاته المختلفة، خاصة سوق المال والصرف والبنوك، وبعد أن كانت أزمة السعودية تتمثل فقط في تهاوي أسعار النفط المصدر الرئيسي للموازنة والإيرادات العامة بات لدينا سبب آخر قد يشعل الأزمة، ويتعلق بالضبابية وحالة الغموض السياسي.
الاقتصاد السعودي لديه ما يكفيه قبل نشوب أزمة الاعتقالات الأخيرة، فهناك عجز في الموازنة يتجاوز 51 مليار دولار عن العام الجاري، والاحتياطي الأجنبي فقد ثلث قيمته في السنوات الثلاثة الأخيرة ليقل حاليا عن 500 مليار دولار، والاقتصاد دخل في مرحلة من الركود في الربع الثاني بعد انكماش الناتج المحلي لفصلين متتاليين بسبب حالة التقشف الشديدة وخفض الرواتب ووقف العلاوات.
كما تسارعت وتيرة السحب من الاحتياطي الخارجي والعام مع دخول السعودية مستنقع حرب اليمن وزيادة تكلفة الحرب على إرهاب داعش، والتوسع في شراء الأسلحة عبر إبرام صفقات شراء ضخمة مع الولايات المتحدة وبلدان أخرى منها روسيا، وجاءت أزمة الاعتقالات الأخيرة لتعمق أزمات الاقتصاد، حيث خلقت نوعا من الضبابية السياسية والغموض، كما قلت ليس فقط حول مستقبل الاقتصاد السعودي بل حول طبيعة مستقبل نظام الحكم، وما لم يتم التعامل مع الأزمة الأخيرة واحتوائها بسرعة فإن الاقتصاد سيعاني بشدة، خاصة مع هروب رؤوس أموال بعض المستثمرين وبيع أصولهم وتأجيل ضخ استثمارات جديدة في المشروعات الأخيرة التي تم الإعلان عنها مؤخرا وآخرها مشروع نيوم.
وأخشى ما أخشاه أن تلحق حملة الاعتقالات الحالية وما تبعها من حالة غموض سياسي أضرارا بأنشطة العمل اليومية داخل الشركات السعودية، مثل دفع الرواتب وسداد مستحقات الدائنين وإبرام صفقات جديدة، ذلك لأن التوسع في الاعتقالات يخلق ظاهرة الأيدي المرتعشة داخل المؤسسات الحكومية ويدفع أصحاب الشركات نحو تقليص أنشطتهم، انتظارا لما تكشف عنه الصورة كاملة وحتى لا يتكبد مزيداً من الخسائر في حال تطور الأوضاع إلى الأسوأ، كما قد يدفع المستثمرون للتخلص من جزء من العمالة.
كما أخشى أن تعمق الأزمة الحالية وحالة الركود التي تشهدها البلاد وتراجع أنشطة القطاع الخاص أزمات الاقتصاد، وأن تنتقل السعودية إلى حالة استنزاف الاحتياطي الأجنبي وسرعة تآكله والضغط على قيمة العملة.
كما أخشى أن تدفع أزمة الاعتقالات، إضافة لأزمة تراجع موارد الدولة من النفط صانع القرار لتحميل المواطن تكلفة علاج أزمات عجز الموازنة عبر زيادة أسعار الوقود والكهرباء والمياه وزيادة الرسوم وفرض الضرائب والضغط على العمالة الوافدة من خلال زيادة تكلفة أقامتها في المملكة وهو ما سيؤثر سلبا على أوضاع الاقتصاد.