يواجه الرئيس الأميركي جوزيف بايدن خيارات صعبة لتنفيذ استراتيجية بناءة لاحتواء الصين التي أصبحت من بين أكبر التحديات الاقتصادية والتقنية والسياسية التي تهدد موقع "الدولة العظمى" الذي ظلّت واشنطن تعتليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945.
في هذا الشأن، قال المستشار السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي، بول هانيل، في تعليق لصحيفة "وول ستريت جورنال" يوم الاثنين: "فريق بايدن يواجه مهمة صعبة لبناء منظور متماسك تجاه احتواء الصين".
على الصعيد الداخلي يواجه بايدن صراع المصالح المتضاربة داخل حزبه، في تبني استراتيجية شاملة لعزل الصين ومحاصرة تمددها التجاري والتقني في العالم.
ويرى محللون أن العديد من أعضاء حزبه لا يرغبون في تحول الصراع بين بكين وواشنطن إلى "حرب باردة" جديدة شبيهة بالحرب الباردة التي خاضتها الولايات المتحدة ضد معسكر الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي. وهذا المنظور تدعمه مؤسسات "وول ستريت" ومصارفها وشركات التقنية التي دعمت الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ولديها مصالح مالية وتصنيعية واسعة في الصين.
وترغب هذه الشركات في تطبيع العلاقات مع الصين، حتى لا تحرم من التسويق والتصنيع في السوق الاستهلاكي الصيني الضخم الذي يقدر عدد مستهلكيه بأكثر من 1.4 مليار نسمة، كما أن التصنيع فيه رخيص مقارنة بالسوق الأميركي، وبالتالي يمنحها ميزة تنافسية وربحية عالية.
ويرى نواب في الحزب الديمقراطي أن الاستراتيجية البيئية التي وضعها بايدن بين أولويات فترته الرئاسية تفترض التعاون مع الصين التي تعدّ من الدول الملوثة للبيئة، إذ إنها أكبر مستخدم للفحم الحجري والغازات الملوثة للبيئة، وبالتالي لا بد من التعاون مع بكين لنجاح استراتيجية خفض التلوث المناخي والاحتباس الحراري في العالم.
لكن في المقابل فإن النقابات العمالية التي دعمت بايدن هي الأخرى وبعض القوى الفاعلة في السياسة الأميركية قلقة من خسارة الوظائف الصناعية الأميركية، في حال تطبيع العلاقات بين واشنطن وبكين.
ويبدو أن الرئيس الأميركي نفسه متردّد في خوض معركة حقيقية مع الصين، إذ قال بايدن، أثناء حملته الانتخابية في الصيف الماضي، إنه ينظر إلى الصين كمنافس للولايات المتحدة وليس كخصم يهدد الولايات المتحدة، وإن بلاده ستكسب المنافسة مع الصين عبر استراتيجيات الاستثمار في الصناعة والتقنية والضغط على بكين لتنفيذ إجراءات تحرير أسواقها وفتحها أمام الشركات الأميركية واحترام حقوق الملكية وحقوق الإنسان.
على الصعيد الدولي، تسعى إدارة بايدن إلى إنشاء تحالف دولي عريض للضغط على بكين وتحجيم تمددها التجاري. وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال " فإن مسؤولي إدارة بايدن الذين يتولون الملف الصيني أو استراتيجية احتواء التمدد الصيني أجروا اتصالات مع الدول الأوروبية والآسيوية بشأن كيفية تنفيذ الاستراتيجية.
وبحسب تقرير الصحيفة فإن واشنطن خلافاً لما كان في السابق لن تخوض معركة احتواء الصين بمفردها، وبدلاً من النزاع مع الحلفاء وشركاء التجارة الذي كان طابع إدارة الرئيس دونالد ترامب، فإنها ستعمل على " الأخذ بالاعتبار مصالح الدول الحليفة حتى تتمكن من إقناعها في الضغط على الصين".
وقال مسؤول في إدارة بايدن في الملف الصيني، "نحن على وعي كامل بأن بعض حلفائنا لديهم مصالح متعددة بعضها يتفق معنا وبعضها يتعارض مع مصالحنا".
يذكر أن إدارة ترامب خاضت الحرب التجارية ضد الصين بمفردها، وفي وقت كانت تتعارك فيه مع حلفاء رئيسيين مثل دول الاتحاد الأوروبي. كما أن إدارة ترامب انسحبت من المؤسسات الدولية المهمة، مثل منظمة التجارة العالمية، وسعت إلى تحطيم "النظام العالمي" القائم وبناء "نظام دولي" جديد بمفردها. ويرى محللون أن هذا المنظور الأحادي سهّل على الصين مهمة "ملء الفراغ العالمي وكسب حلفاء جدد".
ووفق توقعات مراقبين فإن إدارة بايدن سترفع من حجم التفاهم مع الحلفاء ضمن استراتيجية مواجهة الصين، وستعمل معهم على إيجاد حلول لمشاكل التقنية التي تواجهها بلدانهم الخاصة بالتقنية وسلاسل الإنتاج وصناعة قطع الغيار التي تُهيمن عليها الصين. من بين هذه الحلول تأمين شبكة الجيل الخامس في الاتصالات "5 جي"، وتأمين النقص في أشباه الموصلات الذي ضرب صناعة السيارات خلال العام الماضي. ومن المتوقع أن تتمكّن الولايات المتحدة من كسب دول الاتحاد الأوروبي عبر إلغاء الرسوم التجارية على بعض السلع، خاصة واردات السيارات وقطع الغيار.
وفي آسيا تعمل إدارة بايدن وفقاً لما كشف مسؤولون أميركيون لصحيفة "وول ستريت جورنال" على ضمان أمن الدول التي لديها نزاعات حدودية مع الصين، وكذلك تعزيز التحالف القائم بين اليابان وأستراليا والهند.
وتعدّ الهند قطعة الشطرنج الرئيسية إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي في بناء التحالف الدولي لاحتواء الصين بسبب موقعها الاستراتيجي في آسيا، وكونها ثالث أكبر اقتصاد في القارة الآسيوية وخامس أكبر اقتصاد في العالم، إذ يقدّر حجم اقتصادها بنحو 3.202 تريليونات دولار. كما أنها ثاني أضخم الاقتصادات في العالم. ويقدّر عدد السكان في الهند بنحو 1.327 مليار نسمة، وحجم السوق الاستهلاكي يزداد نموّاً مع تنامي حجم الطبقة الوسطى بالبلاد، وبالتالي فإن الهند التي تدخل في نزاع حدودي تطور إلى نزاع عسكري مع بكين تعد مناطق تجارية لاستقبال بعض الشركات الأميركية المتوقع أن تخرج من التصنيع بالسوق الصيني إلى دول آسيوية.
وعلى الرغم من انتقاد بايدن سياسات الحظر التقني والمالي والرسوم الجمركية التي نفذتها إدارة الرئيس السابق ترامب، إلا أنه يتفق معه بضرورة احتواء التمدد الصيني، إلا أن الأسلوب الذي سيتبعه بايدن ربما سيختلف عن أسلوب ترامب، إذ إنه يعمل على بناء تحالف عريض من الحلفاء في آسيا وأوروبا، وبناء بدائل أميركية تقنية للحلفاء.