تصاحب الحرب الروسية الأوكرانية، موجة غلاء غير مسبوقة في تاريخ الجزائر، تترجم حجم تضرر الاقتصاد الجزائري بموجات التضخم الذي يرافق تهاوي الدينار أمام العملات الأجنبية، وفي وقت تكتوي جيوب الجزائريين بغلاء المعيشة، توجه الحكومة بل وحتى السلطات العليا في البلد بوصلتها نحو التجار، محولةً إياهم إلى "عدوٍ" يتحمل لوحده وزر تعثر الاقتصاد وتوغله في نفق الركود، الى حدِ سن قانون لكبح المضاربة غير الشرعية يجرم التجار المخزنين للسلع، فيما يتخوف هؤلاء من استخدام القضاء في معركة مفتعلة لتغطية عجز الحكومة في ضبط الأسواق وحماية القدرة الشرائية للجزائريين.
سخط المواطن
في سوق "علي ملاح" وسط الجزائر العاصمة، لا حديث في أروقته عصر الجمعة 11 مارس/ آذار سوى على موضوعين، "غلاء الأسعار والحرب الروسية الأوكرانية"، يتبادل تجار الخضر والفواكه واللحوم والمواد الغذائية أطراف الحديث للوصول الى سبب تواصل ارتفاع الأسعار الذي تعيشه الجزائر منذ أشهرٍ، وسط تقاذف للمسؤولية من طرف إلى آخر.
يقول المتقاعد محمد عبد القادر إن "غلاء الأسعار في الجزائر عرفناه قبل بداية الحرب الروسية الأوكرانية، والذي يحاول أن يربطه بها يقوم بتحليلات إما خاطئة أو مُضللة يحاول من يروج لها تغطية عجز الحكومة عن ضبط الأسواق".
يضيف المواطن الجزائري لـ "العربي الجديد" أن "غلاء المعيشة لا يتحمله إلا المسؤولون عن تسيير البلاد سواء في العقد الأخير أو حاليا، منذ مطلع السنة الماضية وقدرتنا الشرائية تتراجع، كل مرة يتخفى التجار الصغار وراء التجار الكبار، وتحاول الحكومة تعليق فشلها على فزاعة المضاربة والاحتكار، ويبقى المواطن وحده يدفع الفاتورة".
وشهدت الأسواق الجزائرية موجة غلاء غير مسبوقة مست جميع السلع على السواء، وكانت المواد الغذائية واسعة الاستهلاك والخضر واللحوم في مقدمة السلع التي طاولها لهيب ارتفاع الأسعار، الذي تسابق الحكومة الجزائرية عقارب الزمن لاحتوائه من خلال شن حرب غير مسبوقة على التجار الذين تحملهم مسؤولية الغلاء، فيما يدافع التجار عن أنفسهم بتبرئة ذمتهم من تسريع انهيار قدرة الجزائريين الشرائية.
في سوق علي ملاح دائما، يدافع التاجر بائع اللحوم البيضاء رضوان جعفري عن التجار قائلا: " نحن التجار الحلقة الأخيرة في السلسلة، هناك المنتجون والمستوردون ثم الموزعون وتجار الجملة، حتى تصل إلينا السلع إذن السعر الأخير ليس نحن من نتحكم به، لكن نحن من نتحمل كلام المواطنين، واتهاماتهم التي صارت الآن تُوجه إلينا من طرف الحكومة وحتى رئيس البلاد عبد المجيد تبون، كأننا نحن سبب "توقف الجزائر" و"تعطل اقتصادها".
حرب مُضلِلة
دفع انفلات الأسعار الذي مس المواد الغذائية واسعة الاستهلاك في الجزائر، منذ منتصف سنة 2021، بالحكومة الجزائرية لشن حربٍ ضروس على تجار التجزئة والجملة، وبلغ الأمر الى حد سن قانون دخل حيز التنفيذ مطلع يناير/كانون الثاني المنصرم، يجرم المضاربة وعدم التصريح بتخزين السلع، وهو ما اعتبره التجار بمثابة "حرب مُضلِلة"، تحاول عبرها السلطات الجزائرية توجيه الرأي العام نحو قضايا جانبية، وتغطية فشلها في بعث الاقتصاد وضبط الأسواق، والأهم عدم تحملها مسؤولية "تعويم العملة" الذي أضر كثيرا بالجزائريين.
إلى ذلك اعتبر عضو لجنة المالية في البرلمان الجزائري زهير ناصري أن "المهم هو أن يتم ضبط المفاهيم والمصطلحات، وهو ما طالبت به وزير العدل الذي تقدم بمشروع القانون المتعلق بمكافحة المضاربة، وأن لا نترك المواد والتعاريف المطاطية التي ستكون منفذا لمن يريد الربح السريع، وجدنا أن التعريف الموضوع للمضاربة يحتاج لاجتهاد، لأن المشرع عندما وضع كلمة "بهدف" يقصد النية، وكيف يمكن أن نثبت النية، هل كل من خزن معني، ما الفرق بين "التخزين" و"الاخفاء" إذا كان هدفهما واحد".
وأضاف النائب البرلماني في تصريح لـ"العربي الجديد" أنه "قبل الوصول الى حلقة التسويق التي تحدث في مستواها المضاربة، يجب أن نراقب الحلقة الأولى من سلسلة الإنتاج، يجب أن نعرف ما ننتجه أولا وكيف نرسم خريطة إنتاج للمواد واسعة الاستهلاك حتى لا تحدث ندرة ثم نتحدث عن مكافحة المضاربة، لأن المضاربين للأسف يعرفون أحسن من المؤسسات الرسمية واقع الأسواق ومتى يسحبون السلع ومتى يغرقون بها الأسواق".
وتابع: "في ما يتعلق بالمجال الجزائي مهما كانت العقوبات، من المهم أن لا نحدث صدمة في الأسواق من خلال الاستعمال المفرط لما جاء به هذا القانون، لان المضاربين أكيد ستكون لديهم مقاومة، وسيستعملون كل الطرق بما فيها إحداث اضطرابات في الأسواق وقد راينا سابقا ما حدث مع مادتي السميد والفرينة والبطاطا، كما نرى أنه من الضروري أن توقف الحكومة تسويق أنها في حرب مع التجار، لأنها ستزيد من تعقيد الوضع، لأن دور الدولة في أي دولة هو تنظيم الشأن العام وليس افتعال الحروب لتغطية العجز ان لم نقل الفشل".
عقم الحلول
وبالعودة للحرب الروسية الأوكرانية، يتخوف الناشطون في الأسواق الجزائرية والمتابعون للشأن الاقتصادي أن تزيد وتيرة ارتفاع الأسعار عاجلا أم أجلا، كون الجزائر لا تنتج كليا ما تأكله وما تستهلكه من سلع، إلا أن هذه التطورات التي يعيشها شمال القارة الأوروبية وما ستخلفه من تأثيرات على الاقتصاد الجزائري، لن تكون السبب بقدر ما تكون "عبئا إضافيا" على الاقتصاد المتعثر والراكد والمتوغل في أزمة مالية، عجزت كل الحلول الحكومية عن تحريك مياهها الراكدة.
ويرى المستشار الحكومي عبد الرحمان مبتول أن "ركود الاقتصاد الجزائري يعود في الأصل إلى ما قبل كورونا ومن الجهل ربطه بها أو بالحرب الروسية الأوكرانية، أو حتى محاولة اختزاله في جشعٍ للتجار هو شيء من التضليل غير المبرر، لو نتحدث عن السلطات الحالية التي اطلقت منتصف 2020 برنامجا لإنعاش الاقتصاد بأكثر من 50 مليار دولار، لم نرَ بعد ثماره، بل بالعكس، واجهت الحكومة الحالية ارتفاع العجز وتبخر احتياطي العملات الأجنبية، بتعويم سريع للعملة، حيث هوى الدينار أمام الدولار من 116 دينارا مطلع 2021 إلى أكثر من 146 دينارا الآن وهي فجوة كبيرة، في الحقيقة، رفعت نسب التضخم إلى مستويات بات يتحسسها المواطن في يومياته وفي زياراته للأسواق".
ويضيف المتحدث نفسه لـ"العربي الجديد" أن "الحكومة مطالبة بمواجهة الواقع عوض البحث عن أعداء مهما كانت صفتهم، عليها بعث الاقتصاد وإعادة خلق النشاط الإنتاجي والاستثماري، لتعود العافية للدينار وتعود الأمور إلى نصابها، ويختفي المضاربون والمحتكرون لأن الحكومة تكون قد قامت بمهمتها وهي ضبط الأسواق وتوفير الشروط للمنافسة النزيهة بين الجميع".