بعد مفاوضات شاقة، وافق صندوق النقد الدولي رسمياً، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، على منح مصر حزمة إنقاذ، قيمتها ثلاثة مليارات دولار، على أربع سنوات تقريباً، مشترطاً على الحكومة المصرية لضمان الحصول عليها السماح لسعر صرف الجنيه أمام الدولار بمزيد من المرونة، وإتاحة المجال للقطاع الخاص، وأيضاً تخفيف قبضة الدولة على الاقتصاد، من خلال بيع الشركات المملوكة لها.
ولأول مرة منذ بدء "تاريخنا الحديث" في التعامل مع المؤسسة المالية الدولية، والذي توج بعلامته الشهيرة التي حصلت فيها مصر على قرض الاثني عشر مليار دولار في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أشار الصندوق، في البيان الذي أعلن فيه عن التوصل لاتفاق مع الحكومة المصرية، إلى أن المقصود هو تخفيف قبضة "كل مؤسسات الدولة" بما فيها الجيش، على الاقتصاد.
لم تتمكن الحكومة المصرية من تنفيذ ذلك الشرط، رغم الإعلان في أكثر من مناسبة عن طرح نحو عشر شركات من المؤسسات التابعة لـ"جهات سيادية" للبيع في البورصة المصرية.
كانت هناك محاولات للبدء بشركتي "وطنية"، المالكة لمحطات الوقود، و"صافي"، لتعبئة وتوزيع المياه المعدنية، إلا أن هذه المحاولات أيضاً فشلت، حيث لم تتمكن الشركتان من استيفاء شروط الإفصاح، أو تقديم السجلات اللازمة لطرحها في البورصة.
أما شرط إتاحة المجال للقطاع الخاص فلا يبدو أن هناك جدية في التعامل معه، في ظل وجود أولويات أخرى، تشمل توفير الدولار، وضبط سعره، والوفاء بالالتزامات الخارجية، كما السعي لإيجاد مصادر أخرى للتمويل، أياً كانت التكلفة.
ولو علم أصحاب القرار ما يمكن أن يفعله فتح المجال للقطاع الخاص في مصر، والسعي لتشجيعه، لكان خيراً لهم، لكن الله جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، حتى أن مؤشر مديري المشتريات، الذي يقيس نشاط القطاع الخاص في مصر، أظهر تراجعا للشهر الثلاثين على التوالي.
وأما مرونة سعر الصرف، فلم يحقق البنك المركزي المصري المطلوب منه فيها، حيث ثبت السعر منذ يناير/كانون الثاني الماضي، داخل الجهاز المصرفي الرسمي، عند مستوى 30.90 تقريباً، بينما واصل الدولار تحركه في الأسواق الموازية، بعلاوة تقترب من 30% في كثير من الأحيان.
كل هذه الأمور دفعت صندوق النقد لتأجيل إرسال فريقه في مارس/آذار الماضي، ثم في يونيو/حزيران، وفي المقابل لم يتم صرف الدفعتين المقررتين للربعين الماضيين، ولا يعرف أحد على وجه اليقين من أي طرف ستكون الخطوة التالية في هذا الخصوص تحديداً.
انتشرت الحكايات، غير الرسمية، خلال الفترة الماضية عن وجود تفكير لدى الحكومة المصرية للخروج عن الاتفاق مع الصندوق، أولا لهزالة المبلغ، وثانياً لعدم نجاح الصندوق في جلب استثمارات أجنبية، كانت تقدر بنحو 14 مليار دولار، قال الصندوق عند توقيع الاتفاق إنه سيساعد الحكومة المصرية في الوصول إليها.
وبعد التثبيت الطويل لسعر الصرف، لمدة ستة أشهر تقريباً، سمعنا رئيس الجمهورية يتحدث عن ضرورة تجنب تحريك السعر، مؤكداً "عدم تحمل المواطنين" لخفض جديد للجنيه، سيتسبب أغلب الظن في ارتفاع أسعار الكثير من السلع، كما حدث عند التخفيضات السابقة.
بدورها، ردت كريستالينا جورغييفا، المدير العام لصندوق النقد الدولي، على الرئيس المصري، بصورة غير مباشرة، مؤكدة أن استخدام احتياطي النقد الأجنبي في تثبيت السعر، على النحو الذي تفعله مصر، أشبه بصب الماء في وعاء به ثقوب، في إشارة إلى عدم جدواه، مع ما يمثله من تسرب للاحتياطيات.
وقال "دويتشه بنك" الألماني للبنك المركزي إنه سواء عليكم أخفضتم الجنيه أم ثبتتموه، ما لكم من محيص! أما بنك الاستثمار غولدمان ساكس الاستثماري الأميركي فقد أشار إلى أن التخفيض آت لا محالة، مشيراً إلى أن البنك المركزي ربما يكون قد نجح في كسب بعض الوقت فقط، خلال الفترة الماضية.
أتفق تماماً مع رفض القائمين على الأمر لتخفيض سعر الجنيه مرة أخرى، قبل توفير "عدة مليارات من الدولارات" يمكن من خلالها الدفاع عن العملة المصرية أمام "طوفان" شراء الدولار المتوقع وقتها.
لكن، المشكلة أن هذه الأمور لا تتم بقرار، وإنما ينبغي اتباع السياسات اللازمة للتمكن من تنفيذها، وهو ما لا يبدو أننا نجحنا فيه حتى الآن.
ثبت المركزي سعر الدولار مقابل الجنيه، لكن الأزمة لم تنته، وكانت هناك تبعات لذلك، منها على سبيل المثال لا الحصر ارتفاع الديون الخارجية لمصر إلى 165.4 مليار دولار، بنهاية الربع الأول من العام الحالي، وبزيادة 2.5 مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأولى من العام، وأكثر من 7.5 مليارات دولار، مقارنة بمستواها قبل عام.
وكان من التبعات أيضاً زيادة مخصصات سداد القروض المحلية والأجنبية في الموازنة الجديدة إلى نحو تريليون و315 ملياراً و914 مليون جنيه.
وترتب على ذلك إيقاف وزارة التموين المصرية الدعم الاستثنائي المقرر لنحو 8 ملايين بطاقة تموينية، لإجمالي 36 مليون مواطن تقريباً، من الأسر الأولى بالرعاية، بعد أن ابتلعت خدمة الدين المزيد من مخصصات الدعم، في الموازنة المصرية.
وترتب على ذلك أيضاً رفع أسعار 29 سلعة تباعاً، من أصل 32 سلعة مدرجة على بطاقات الدعم التموينية، من بينها سلع أساسية، مثل الأرز والسكر وزيت الطعام والمعكرونة والعدس والفول والدقيق.
وظهرت أسواق موازية (سوداء) للتعامل في العديد من السلع التي يدخل فيها مكون مستورد، من السيارات غير المستعملة وأجهزة الحاسب الآلي والثلاجات، وحتى السجائر، التي ارتفع سعر بعض أنواعها بنسبة زادت على 60%، مقارنة مع أسعارها الرسمية المعلنة من الشركات، على خلفية تفاقم أزمة نقص المعروض منها، وتخزينها من جانب التجار لتوقع رفع أسعارها، وسط غياب تام لأجهزة الرقابة، وأبرزها جهاز حماية المستهلك.
هذه الأمثلة تشير إلى أن أزمتنا لا يمكن أن تنتهي بمجرد تثبيت سعر الدولار، حيث إن تثبيته لم يمنع تحرك الكثير من المؤشرات الأخرى، التي تؤكد تراجع مستوى معيشة المصريين، بينما المسؤول الأول لا يملك إلا الإشادة بتضحياتهم وصبرهم.