بوتين يشهر سلاح الغاز الطبيعي في حربه الاقتصادية ضد الغرب

19 يوليو 2022
الرئيس بوتين مع الرئيس التنفيذي لشركة غاز بروم أليكسي ميلر (getty)
+ الخط -

مع الارتفاع الجنوني في أسعار الغاز الطبيعي بالسوق الفورية في أوروبا أصبح من الواضح أن الغاز سيصبح ميدان "المعركة الاقتصادية" بين موسكو والدول الغربية.

ويبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اختار بعناية الغاز الطبيعي للمعركة الاقتصادية الحالية لعدة أسباب أهمها أن تأثيره على دخل الخزينة الروسية أقل من دخل النفط، وثانياً أن تأثيره على المواطن الأوروبي أكبر من تأثير النفط حيث إنه يستخدم بكثافة في التدفئة وتوليد الكهرباء، وثالثاً: لأن الخيارات المتاحة أمام أوروبا لإيجاد بدائل قليلة جداً وتحتاج إلى وقت وربما سنوات.

وحسب بيانات نشرها معهد كارنيغي للدراسات في نيويورك، فإن حصة دخل صادرات الغاز الطبيعي للخزينة الروسية تبلغ نسبة 10%، بينما تبلغ حصة النفط 30%.

وفي حال وقف روسيا لتصدير الغاز إلى أوروبا فإنها تخسر 40 مليار دولار، ولكن خسارتها من وقف النفط تفوق ذلك بكثير، إذ بلغت صادرات النفط الروسي لأوروبا في شهر واحد خلال مايو/ أيار نحو 20 مليار دولار.

ورغم أن روسيا ليس لديها بدائل لتصدير الغاز عبر الأنابيب الذي تمد به أوروبا حالياً إلى العالم الخارجي على مدى السنوات القليلة المقبلة، إلا أنها اختارت الغاز كسلاح في "المعركة الاقتصادية" مع أوروبا على أمل أن تقود فاتورة الكهرباء المرتفعة والنقص الكبير في الغاز الطبيعي خلال الشتاء المقبل إلى حدوث اضطرابات سياسية داخل الحكومات الأوروبية، وإلى خلافات تقود تلقائياً إلى تفكك في الكتلة الأوروبية.

غاز بروم الروسية أوقفت إمدادات الغاز الطبيعي إلى ألمانيا بنسبة 40% بسبب أعطال توربين أنبوب "نورد ستريم 1"

ورغم أن شركة غازبروم الروسية العملاقة لم تعلن صراحة أنها ستوقف إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا حتى الآن، إلا أن العديد من دول الاتحاد الأوروبي باتت تضع في حساباتها ذلك ومن بين تلك الدول فرنسا وألمانيا، بل وتتوقع الوقف الكامل لإمدادات الغاز الروسي خلال العام الجاري وتتحسب لذلك، ولكن كيف ستكون سيناريوهات أسعار الغاز في أوروبا في حال حدوث ذلك.
على صعيد تداعيات الوقف الكامل للغاز الأوروبي على أسعار الغاز خلال النصف الثاني من العام الجاري، ترى مؤسسة أورورا الأوروبية لأبحاث الطاقة، في دراسة أن الوقف الكامل لإمدادات الغاز الروسي لأوروبا بنهاية العام الجاري سترفع أسعار الغاز بنسبة 68%، إذ إن ألمانيا ستفقد نحو 47 مليار متر مكعب من الغاز خلال العام الجاري، كما ستواجه بلغاريا والمجر مخاطر قطع الغاز بشكل طارئ.

توقعات الأسعار

وحسب تقديرات أورورا فإن أسعار الغاز سترتفع من مستواها الحالي البالغ 55 دولاراً لكل ألف قدم مكعبة إلى أكثر من 100 دولار لكل ألف قدم مكعب.
وكانت شركة غاز بروم قد أوقفت إمدادات الغاز الطبيعي إلى ألمانيا بنسبة 40% بسبب أعطال توربين أنبوب "نورد ستريم 1"، وقالت إن الأعطال ستوقف تدفق الغاز إلى ألمانيا حتى يوم 21 يوليو/ تموز الجاري.

يذكر أن أسعار الغاز الطبيعي ارتفعت في أوروبا أمس الاثنين بنسبة 2% وسط تقارير جديدة حول إعادة توربينات خط أنابيب الغاز الروسي نورد ستريم 1.
وذكرت صحيفة كوميرسانت الروسية الاقتصادية أمس أن كندا أرسلت التوربينات الخاصة بخط أنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم  1" إلى ألمانيا بالطائرة بعد الانتهاء من أعمال الإصلاح.
وبناء على هذه التقارير ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في لندن أمس، حيث ارتفعت أسعار العقود الآجلة للغاز الطبيعي لعقود أغسطس/آب بنسبة 2.35%.

وفي هولندا ارتفعت العقود الآجلة للغاز الطبيعي لنفس الشهر بنسبة 2.28% إلى 163.20 يورو لكل ميغاواط. ويفسر محللون الارتفاع بسبب درجات الحرارة المرتفعة في معظم الدول الأوروبية، وزيادة الطلب على الكهرباء، واشتعال الحرائق الذي رفع من الطلب على التبريد، وبالتالي الطلب على الغاز الطبيعي.

ويضع خبراء الطاقة في أوروبا ثلاثة سيناريوهات للطلب على الغاز الطبيعي وأسعاره في أوروبا خلال النصف الثاني من العام الجاري وحتى فترة شتاء العام 2022 و2023.

وهذه السيناريوهات تعتمد على برودة الشتاء والبدائل المتاحة أمام أوروبا لسد النقص في الغاز الطبيعي ومدى قدرة دول القارة على خفض الاستهلاك للغاز الطبيعي واستخدام بدائل الفحم الحجري وطاقة الرياح والتوليد عبر المفاعلات النووية.

معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة: أي شتاء بارد في أوروبا سيقود تلقائياً إلى زيادة الطلب على الغاز الطبيعي في أوروبا بين 20 إلى 30 مليار متر

على صعيد برودة الشتاء يقول معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة في دراسة صدرت لشهر يوليو/ تموز الجاري، إن أي شتاء بارد في أوروبا سيقود تلقائياً إلى زيادة الطلب على الغاز الطبيعي في أوروبا بين 20 إلى 30 مليار متر مكعب خلال العام الجاري مقارنة بالطلب في العام الماضي.

وفي هذه الحال ليس أمام أوروبا خيارات لسد النقص في الغاز الطبيعي سوى الضغط على المستهلكين بخفض استخدام الغاز الطبيعي عبر وقف العديد من الأجهزة الكهربائية التي تعتمد على الكهرباء.
على صعيد الصناعة تتوقع الدراسة أن أسعار الغاز المرتفع ستقود تلقائياً إلى خفض النشاط الصناعي، مما سيضطر الحكومات الأوروبية إلى تقديم دعم مالي مباشر لشركات الصناعة للمحافظة على مستويات الإنتاج وتفادي الوقوع في فخ "الركود التضخمي".

تراجع اليورو

وتستفيد صادرات الصناعة الأوروبية في الوقت الحالي من التراجع الكبير في سعر صرف اليورو مقابل الدولار، ولكن أسعار الغاز المرتفعة تزيد من كلفة إنتاج الوحدات المصنعة، وبالتالي تقلل من أرباح الصناعات.

وكانت مسؤولة الطاقة الأوروبية كادري سيمسون قد طلبت من الدول الأوروبية خفض استهلاك الغاز الطبيعي بمقدار 38 مليار متر مكعب، وذلك في خطاب أمام البرلمان الأوروبي في 14 يونيو/ حزيران الماضي تحسباً لوقف موسكو لكامل إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا بداية من النصف الثاني من العام الجاري وحتى فترة الشتاء.

من جانبه يرى معهد أوكسفورد للطاقة أن دول الاتحاد الأوروبي يمكنها خفض استهلاك الغاز الطبيعي بين 40 إلى 50 مليار متر مكعب خلال العام الجاري.

ولاحظت دراسة المعهد أن دول أوروبا خفضت توليد الكهرباء بالغاز الطبيعي بنسبة 2.3% في النصف الأول من العام الجاري، كما رفعت توليد الكهرباء بالفحم الحجري بنسبة 10%. ومثل هذه السياسات من المتوقع أن تنعكس إيجاباً وتساهم في لجم الارتفاع الجنوني المتوقع بأسعار الغاز الطبيعي خلال الشتاء المقبل.

على صعيد البدائل، حسب وثيقة المفوضية الأوروبية المنشورة في 18 مايو/ أيار، فإن دول الاتحاد الأوروبي تخلت عن الخطة الطموحة التي وضعتها لخفض إمدادات الغاز الروسي بنسبة 66% بنهاية العام الجاري.

دول الاتحاد الأوروبي تخلت عن الخطة الطموحة التي وضعتها لخفض إمدادات الغاز الروسي بنسبة 66% بنهاية العام الجاري

وحسب الوثيقة فإن أوروبا تخطط حالياً لزيادة واردات الغاز الطبيعي المسال بنحو 50 مليار متر مكعب خلال العام الجاري، وخفض استهلاك الغاز الطبيعي بالكتلة الأوروبية بنحو 10 مليارات متر مكعب، وزيادة الغاز المستورد عبر الأنابيب بنحو 10 مليارات متر مكعب، وهو ما يعني حسب هذه الوثيقة أن الطلب الأوروبي على واردات الغاز الطبيعي الروسي سينخفض خلال العام الجاري إلى 70 مليار متر مكعب.

تراجع الطلب

لكن بيانات المفوضية الأوروبية تشير إلى أن الطلب على الغاز الطبيعي تراجع خلال الشهور الخمسة الأولى من العام الجاري بنحو 11.3 مليار متر مكعب مقارنة بالطلب في نفس الفترة من العام الماضي.

وحسب هذه البيانات فإن الطلب على الغاز الطبيعي من المتوقع أن يتراجع بنحو 23 مليار متر مكعب خلال العام الجاري.

وفي شأن بدائل إمدادات الغاز الروسي عبر الأنابيب المتاحة لأوروبا، تشير دراسة معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة إلى أن لدول الاتحاد الأوروبي كميات من الغاز الطبيعي غير الروسي عبر الأنابيب من كل من النرويج والجزائر وأذربيجان.
وتبلغ كمية الغاز التي تستوردها أوروبا من أذربيجان عبر أنبوب "ترانس أدرياتيك بايب لاين " المعروف اختصارا باسم "تاب" نحو 10 مليارات متر مكعب.

وحسب وكالة "ستاندرد أند بورز ـ غلوبال" فإنه لا توجد إمكانية لزيادة إمدادات الغاز الطبيعي عبر هذا الأنبوب قبل العام 2025.

أما بالنسبة لإمدادات الغاز الطبيعي من الجزائر فتشير بيانات أوروبية إلى أن صادرات الغاز الجزائري لأوروبا عبر الأنابيب تراجعت بنحو 3 مليارات متر مكعب خلال العام الجاري مقارنة بالعام الماضي.

كما أن صادرات الغاز المسال الجزائري إلى أوروبا عبر الناقلات تراجعت هي الأخرى بنحو 2.2 مليار متر مكعب خلال العام الجاري مقارنة بالعام الماضي.

وتتجه الأنظار إلى الجزائر كواحدة من الدول التي يمكن أن ترفع وارداتها من الغاز الطبيعي لأوروبا، لكن يشير خبراء إلى أن الجزائر ليست لديها طاقة فائضة من الغاز على المدى القصير، وأن زيادة الإنتاج والإمدادات إلى أوروبا تواجه ثلاثة تحديات رئيسية.

وهذه التحديات هي ضعف الاستثمار في صناعة الغاز الطبيعي، وعقبات التوصيل والشحن من حيث توسعة الأنبوب المغاربي ووسائل نقل الغاز المسال، إضافة إلى تنامي الاستهلاك المحلي للغاز الجزائري مع التزايد السريع في النمو السكاني.

المساهمون