بريطانيا الرأسمالية تلجأ للتسعير

20 سبتمبر 2022
رئيسة الوزراء البريطانية ليز تروس تجمد أسعار الطاقة للمستهلكين (getty)
+ الخط -

أجواء ملبدة تسود توقعات النمو في الاقتصاد العالمي خلال الفترة القادمة، بسبب أبعاد الحرب الروسية على أوكرانيا، فلم يعد الأمر مجرد حرب بين دولتين، لكنه صراع علني وصريح بين روسيا وكلّ من أميركا وأوروبا. وما يشعل وتيرة الصراع أن روسيا تعرف مواطن الضعف لدى العدو، وهنا تضغط على الاقتصادات الأوروبية، عبر ملفات الغاز والنفط، في مواجهة ما يعرض عليها من عقوبات تستهدف تقليم أظافرها، ووضعها في موقف المهزوم، والقابل بكلّ شروط الغرب.

وتجني كلّ الاقتصادات على مستوى العالم ثماراً مُرة لتلك الحرب، أبرزها ارتفاع معدلات التضخم التي وصلت في أميركا إلى قرابة 9% وقريب من هذا المعدل تعاني أوروبا، وبلغت فواتير الطاقة في كثير من الدول مستويات غير مسبوقة.
وبالوقت الذي تشهد فيه أوروبا على وجه التحديد، خطوات تنسيقية لمواجهة التصعيد الروسي، المتمثل في إغلاق خطوط الغاز الطبيعي، أو الحرص على استمرار موجة ارتفاع أسعار النفط والغاز، أعلنت رئيسة وزراء بريطانيا ليز تراس عن تجميد أسعار الطاقة في بلادها لمدة عامين، فلا تدفع الأسرة فاتورة للطاقة تزيد عن 2500 جنيه إسترليني سنوياً، حتى أكتوبر/تشرين الأول 2024.
"الضرورات تبيح المحظورات" قاعدة عقلية وفقهية، معمول بها في كثير من المواقف التي تستدعي هذا، والبعد عنها والاستمرار في إطار أيديولوجيا أو تصور ضيق، يعرض الفرد والمجتمع لكثير من المشكلات. والتصرف الصحيح، أن يُعمل متخذ القرار، سواء كان فرداً أو حكومة، هذه القاعدة في وقتها، كي لا يهلك أو يضطر لفعل ما هو أسوأ مما تفرضه الضرورة الحالية.
والتاريخ الاقتصادي يحظى بأمثلة كثيرة، تخلت فيها الدول عن أهم مقوماتها الأيديولوجية والفكرية، إما لمواجهة ضرورة أو تحصيل مصلحة، فالصين الدولة الماوية، تعمل في إطار نظام اقتصاد رأسمالي، وتكافح من أجل حرية التجارة.
وكذلك أميركا لم تمنعها رأسماليتها من تأميم أكبر شركة تأمين إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008، من أجل إنقاذ 300 بنك من الإفلاس، كما تقدم الدعم لمزارعيها للحفاظ على أوضاعهم الاجتماعية منذ عقود، وأخيراً قدم دونالد ترامب 14 مليار دولار دعماً للمزارعين الأميركيين الذين تضرروا من قرارات الصين بفرض ضرائب على منتجاتهم الزراعية.

لكن في دولنا العربية والإسلامية، لو أنّ أحد الاقتصاديين طالب الحكومات بتجميد الأسعار لبعض القطاعات الحيوية المهمة، أو تسعير بعض السلع الضرورية لحياة الفقراء، لاتهموه بالجنون والخروج عن القواعد الاقتصادية، أو أنّه غير مُلم بالجوانب الاقتصادية، أو أنه صاحب ميول شيوعية أو اشتراكية. لكن حينما نقرأ هذا في دولة عتيدة في الرأسمالية، فلا تفسير سوى أنها قبعة الخواجة، التي يجب أن نعتمرها عند قراءة واقعنا، حتى نوصف بالعصرية.

الضرورة تلغي العرض والطلب
قواعد العرض والطلب من أهم سمات الرأسمالية الحاكمة في بريطانيا، لكنّ إعمال قاعدة العرض والطلب في العسر واليسر، غير منطقي، فهناك حرب تطاول الجميع، وتضخم غير مستوعب، ولن تكون العواقب الاجتماعية محمودة، إذا ما جرى إعمال العرض والطلب في ظلّ هذه الظروف الاستثنائية.
الحكومة البريطانية، عندما قررت تجميد أسعار الطاقة لمدة عامين، فإنها تقوم بتعويض شركات الطاقة بفارق السعر، ومن شأن القرار الحكومي، أن يخفف كثيراً من الأعباء عن كاهل الأسر، وستكون للقرار تبعاته الإيجابية في مكونات النشاط الاقتصادي الأخرى.
وشملت إجراءات تراس إلغاء ضريبة بقيمة 150 جنيهاً إسترلينياً كانت تفرض على فواتير الطاقة، لصالح إنتاج الطاقة الخضراء، علما بأن الفروق التي ستدفع لشركات الطاقة يتم تدبيرها من خلال ضرائب مفروضة على الشركات العملاقة العاملة في مجال الطاقة. ويأتي قرار تراس في ظلّ ما يمكن اعتباره اتجاهاً نزولياً في أسعار الطاقة في الأسواق الدولية، فيوم 8 سبتمبر/أيلول 2022، بلغت أسعار خام برنت نحو 88.9 دولارا للبرميل، والأميركي 82.8 للبرميل.
لكنّ الدلالة هنا أن استيعاب الحكومة للأوضاع الاجتماعية في مجملها يستأهل التخلي عن آلية العرض والطلب، والاتجاه لقرار استثنائي، لمدة عامين، يمكن خلالهما ترتيب أوضاع الأسرة ماليًا.
وفي نفس الوقت، يعد ذلك قرارًا استباقيًا لاحتمالات الأسوأ في سوق الطاقة خلال الفترة المقبلة، والتي توقع فيها الجميع شتاء قارسًا في أوروبا، واحتمالات أن توجه القارة بأكملها أزمة غير مسبوقة في توفير احتياجاتها من الوقود خلال الشتاء، وهو ما دعا الحكومات الأوروبية للتنسيق واتخاذ قرارات جماعية لمواجهة الأزمة.

متى نتعلم الدرس؟
ما قامت به "تراس" من تجميد لأسعار الطاقة لمدة عامين، وغيره من القرارات التي تتخذ من حكومات غربية للحفاظ على الحماية الاجتماعية، يجعلنا في دولنا العربية والإسلامية، نعتمد منهجية أخرى في التعامل مع مشكلاتنا، خاصة أننا أصحاب رصيد وتجربة اجتماعية وإنسانية كبيرة تجلت في قواعد أصول الفقه.
ومن الدروس المستفادة، من موقف رئيسة الوزراء البريطانية، أن دور الحكومة ليس فقط ترك الناس لتنهشهم قواعد السوق، ولكن التدخل في الوقت المناسب، واتخاذ القرارات الصعبة، التي قد تحمل الحكومة أو الشركات الكبرى تبعات مالية، وتخصم من أرباحهم.
أن الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة لا يقل أهمية عن الدور السياسي، وأن مسؤولية الدولة ليست فقط وضع السياسات والاستراتيجيات والرقابة، ولكن أيضًا اتخاذ قرارات ضابطة لحركة المجتمع ونشاطه الاقتصادي، وأن الأيديولوجية الاقتصادية للمجتمع ليست قوالب جامدة، وليست نصوصًا مقدسة، ولكنها قابلة لأن تعطل، وتعدل وقت الضرورة.
فمتى تتخذ الحكومات في بلادنا من القرارات ما يخفف على مواطنيها الأعباء، في ظل أزمتين عالميتين متتاليتين، وهما جائحة أزمة كورونا، وأزمة الحرب الروسية على أوكرانيا؟ فالتضخم أنهك العديد من الشعوب العربية والإسلامية، فضلًا عما نالهم من تخفيض لقيمة العملات المحلية، وما ترتب عليه من تخفيض للثروات والمدخرات.
والدرس الثاني، هو من يراقب الكبار في بلادنا، ويحملهم جزءًا من فواتير الأزمات، التي لا قبل للأفراد في الطبقتين الفقيرة والمتوسطة لتحمل تبعاتها السلبية... فكم من شركات في بلادنا نالت أرباحًا لم تحلم بها في ظل تلك الأزمات، وكم من شركات تتهرب أصلًا من الضرائب.
والدرس الثالث، هو متى تنظر حكوماتنا إلى مشكلاتنا الاقتصادية في إطار رؤية شاملة، وأن تعيد النظر في بعض الأمور، التي قد تكون قد فرضتها على المجتمع، ويمكن تأجيلها أو تحويل مسارها، كما فعلت رئيسة الوزراء البريطانية في شأن الضريبة الخضراء.
كم من الضرائب فرضت، ويمكن إلغاؤها أو تخفيض نسبتها، من أجل مساعدة الناس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية في مواجهة ما فرض عليها من أعباء ثقيلة، بسبب مشكلات داخلية أو خارجية.

القادم أعجب
غير مرة علمتنا التجارب الأوروبية والأميركية، أنهم على أتم استعداد لتجاوز القواعد المستقرة، سواء في عالم الاقتصاد أو السياسة، وإذا ما استمرت أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا، وازدادت تبعاتها الاقتصادية والسياسية، فإننا ننتظر من القرارات الحكومية في أوروبا وأميركا، ما هو أكبر من تجميد الأسعار، والعودة إلى دور أكبر من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي.
فالعبرة هي استقرار المجتمعات، والبحث عن المصلحة، أما الأيديولوجيات والحديث عنها والدفاع المستمر عن مزاياها وخلافه، فوقت ذلك ليس الأزمات والصراع، ولكن وقت ذلك كله في زمن الرفاه والسعة.

المساهمون