تبدو ملامح إستراتيجية إدارة جو بايدن تجاه الصين مشابهة إلى حدّ ما لتلك التي تميَّز بها نهج إدارة دونالد ترامب في مواجهة هذا التنِّين الآسيوي الذي يتطلَّع للتربُّع على عرش الاقتصاد العالمي.
منذ تولِّيه السلطة في كانون الثاني/يناير 2021، أبدى الرئيس الأميركي بايدن نبرة أكثر حدّة وأقلّ هزلية فيما يتعلَّق بالصعود الصيني بخطوات حاسمة نحو قمة العالم الاقتصادية.
وركَّز بايدن على النبش في سجِّل الصين الحالك السواد وتسليط الضوء على ممارساتها التعسُّفية ضدّ الأقليات المسلمة، في الوقت الذي يُبقي فيه فمه مطبقاً تجاه الظلم الذي يمارسه الاحتلال الصهيوني بحقّ الشعب الفلسطيني.
ففي 3 حزيران/يونيو 2021 أصدر بايدن أمراً بمنع الأميركيين من الدخول في شراكات استثمارية مع الشركات الصينية التي تساهم في قمع مسلمي الإيغور والمعارضة من خلال تزويد الحكومة الصينية بتكنولوجيا المراقبة، كما أدرج 59 شركة صينية ضمن اللائحة السوداء بسبب استمرارها في دعم الجيش الصيني بأجهزة الحوسبة الفائقة وعالية السرعة.
بطبيعة الحال، لم يأت هذا القرار لسواد عيون المعارضة التي تعدّ بمثابة شوكة في جنب الحزب الشيوعي الحاكم، أو دعماً للأقليات الدينية المضطهدة في الصين، ولكن جاء خوفاً من تهديد المراقبة الصينية الذي يتربَّص بأميركا وشعبها.
تخشى واشنطن استحواذ بكين على الريادة التكنولوجية وتمقت حرصها على توسيع شبكة مكاسبها الإستراتيجية من خلال نسج روابط عالمية بواسطة مبادرتها الطموحة "الحزام والطريق"، وهذا ما يُترجم إلى خطابات مفعمة بالحقد والكراهية لا يتردَّد كل من يسكن البيت الأبيض في إلقائها على مسامع العالم.
يلجأ بايدن إلى أساليب ملتوية لحشد ما أمكنه من الحلفاء في محاولاته البائسة لتلجيم النفوذ الصيني ويستمرّ برشق حكومة شي جين بينغ بالحجارة متجاهلاً أنّ بيته من زجاج، فهو يندِّد بممارسات العمل القسري وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان في الصين، لكنّه يغضّ بصره عما يحدث من ممارسات أشدّ وأبشع في فلسطين والهند، ويتَّهم الصين بتسخير التكنولوجيا لأغراض التجسُّس، لكنّه يتناسى ضلوع بلاده والكيان الصهيوني في التجسُّس الإلكتروني والهجمات السيبرانية.
من الغريب العجيب أن يستمرّ الرئيس بايدن في الحديث عن الديمقراطية، التي تآكلت وتراجعت، وأدَّت بالتالي إلى انزلاق بلاده من خانة الديمقراطيات الكاملة والراسخة إلى خانة الديمقراطيات المعيبة والمشوبة لتتَّخذ مكاناً لها بجانب البرازيل، الهند، تونس، ناميبيا وغانا، وفقاً للتقرير السنوي لمؤشر الديمقراطية لعام 2020 الصادر عن "وحدة الاستخبارات الاقتصادية" التابعة لمجموعة "الإيكونوميست" البريطانية.
سيُؤدِّي الصراع الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة إلى تعقيد ممارسة الأعمال التجارية ورفع تكاليفها وزيادة مخاطرها على مستوى العالم من خلال فتح الباب على مصراعيه للعقوبات
كما وجد استطلاع لمركز بيو للأبحاث "Pew Research Center"، نُشرت نتائجه في العاشر من حزيران/يونيو 2021، بأنّ 57 بالمائة من المستجوبين اعتبروا أنّ الديمقراطية الأميركية كانت نموذجاً جيّداً، لكنّها لم تعد كذلك في السنوات الأخيرة.
بات من الواضح أنّ ما أسماه بايدن بـ"الصراع بين الديمقراطية الأميركية والاستبداد الصيني" لا يعدو كونه مجرَّد مسرحية سمجة لصدّ الأبواب الاستثمارية في وجه الصينيين، واتَّخذ من قمتي مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى (11-13 حزيران/يونيو 2021) وحلف شمال الأطلسي "ناتو" (14 حزيران/يونيو 2021) منصّة مهمّة لتهويل التهديد الصيني في إطار أجندة رُسِمت لتأليب كل الحلفاء على الصين وإبطال مفعول مغناطيسها الجاذب للاستثمارات في كل أنحاء العالم ووقف سباقها لنشر شبكة الجيل الخامس للاتصالات.
لقد جاء بايدن ليُكمل ما بدأ به سلفه ترامب، حيث أبقى على الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على واردات صينية بقيمة 360 مليار دولار سنة 2018، ولم يكتف بذلك فحسب.
بل تجاوز بايدن ترامب في عدائه للصين من خلال تكليف وزارة الخزانة بتسيير ملف العقوبات ضدّ الشركات الصينية نظراً للخبرة الكبيرة التي يتمتَّع بها هذا القسم التنفيذي في فرض العقوبات مقارنة بالبنتاغون.
أيقنت أميركا بشكل متأخِّر أنّ سباقها التكنولوجي مع الصين خرج عن سيطرتها، لذلك يعمل الرئيس بايدن على استدراك الأمور من خلال استثمار مبلغ 52 مليار دولار على مدى 5 سنوات لتحفيز الشركات الأميركية على تسريع وتيرة تصنيع الرقائق وأشباه الموصلات في أميركا.
علماً أنّ الحكومة الصينية استثمرت ما يزيد عن 150 مليار دولار لتطوير هذه التقنيات، كما تضمَّنت الخطة الأميركية المخصَّصة لتعزيز التقدُّم التكنولوجي الأميركي تخصيص 120 مليار دولار للوكالة الحكومية "National Science Foundation" من أجل إعطاء دفعة قوّية للبحث في المجال التكنولوجي، حيث يشمل ذلك المبلغ قيمة 1.5 مليار دولار مخصَّصة لتطوير شبكة الجيل الخامس للاتصالات التي قطعت فيها الصين أشواطاً كبيرة.
تعتقد أميركا أنّها ستتمكَّن من تطويق الصين لكنّها فعلياً لا تعطيها إلا دافعاً قوّياً لاستخدام تدابير مضادّة وتطبيق إجراءات بديلة تُمكِّنها من التملُّص من العدوان الاقتصادي الأميركي السافر
تعتقد أميركا أنّها ستتمكَّن من تطويق الصين لكنّها فعلياً لا تعطيها إلا دافعاً قوّياً لاستخدام تدابير مضادّة وتطبيق إجراءات بديلة تُمكِّنها من التملُّص من العدوان الاقتصادي الأميركي السافر تحت غطاء العقوبات الاقتصادية، كالتخلُّص التدريجي من استخدام الدولار في المعاملات التجارية، ورفع مستوى التعامل بالرنمينبي "RMB".
حيث أفاد تقرير تدويل الرنمينبي لعام 2020 الصادر عن بنك الصين الشعبي "البنك المركزي" بارتفاع حصة التجارة الخارجية الصينية التي تتمّ تسويتها بالرنمينبي من أقل من 1 بالمائة في سنة 2009 إلى 20 بالمائة في سنة 2019.
وأكَّد التقرير ذاته على انخفاض التسويات التجارية بالدولار بين روسيا والصين، اللتان تخضعان للعقوبات الأميركية، من 90 بالمائة في سنة 2015 إلى 46 في المائة في سنة 2019.
الصين لم تكتف بتعزيز استخدام الرنمينبي في إستراتيجيتها لإزالة "الدولرة" في المعاملات الثنائية، بل تستعدّ لإصدار عملتها الرقمية "اليوان الرقمي" قريباً من أجل جعل المدفوعات عبر الحدود أسهل وأسرع وأرخص وأكثر كفاءة وشمولية.
خلاصة القول، سيُؤدِّي الصراع الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة إلى تعقيد ممارسة الأعمال التجارية ورفع تكاليفها وزيادة مخاطرها على مستوى العالم من خلال فتح الباب على مصراعيه للعقوبات الأميركية والعقوبات الصينية المضادّة، وهذا ما سيضع الشركات الغربية النشطة في سلسلة التوريد العالمية أمام حتمية الاختيار بين الصين والولايات المتحدة.
ما تخشاه أميركا سيقع، وستفعل الصين ما بوسعها لحماية مصالحها من العقوبات الغربية من خلال إنشاء ملعب اقتصادي يحمي شركاتها، وباقي الشركات الأجنبية التي تتعامل معها من الأذرع الطويلة للعدوان الاقتصادي الأميركي، وستتمكَّن من تحقيق ذلك بفضل ثقلها الاقتصادي المتزايد ونفوذها المتصاعد.