بائعو الموت في مصر: غشاشو زمن الغلاء

05 نوفمبر 2022
سوق العتبة وسط العاصمة تتسرب إليه كميات كبيرة من المنتجات المغشوشة (Getty)
+ الخط -

وسط ميدان العتبة الخضراء في قلب العاصمة المصرية القاهرة، وقف شاب ينادي بأعلى صوته: "تعالى يا صاحب العيال... الأكل رخيص وعال العال".

ما أن يدلف المارة إلى فرشة (بسطة) البائع، ليشاهد البضاعة الملقاة، تحت جسر علوي يربط بين القاهرة الخديوية ومنطقة الأزهر العتيقة، سيلاحظ أنّ السلع الكثيرة، منها بواقي المستورد الفاخر، والمحلي باهظة الثمن، التي أصبحت تباع بـ"تراب الفلوس" (ثمن رخيص).
نظرة فاحصة من خبير سيدرك أنّ البضائع التي ينادي عليها البائع، ما هي إلّا سلع انقضى عمرها الافتراضي، تبدأ من الفاكهة، واللحوم والأسماك المعلبة، وانتهاء بمنتجات طبية والزيوت والحلويات والعطور وفواكه من كلّ صنف ولون.
تلاصق "فرشة" البائع، آلاف البسطات التي استولت على ميدان العتبة الخضراء الشهير، وامتدت إلى كلّ ركن من أركان شوارع العاصمة، وبلغ أمرها أن احتلت الشوارع ومداخل المباني الحكومية ومواقف السيارات متعددة الطوابق، وتحيط بقسم شرطة الموسكي ومديرية أمن القاهرة، ومحيط مساجد القاهرة الفاطمية.

وتئن القاهرة الكبرى بالأسواق العشوائية، التي انتشرت في مختلف محافظات مصر، بصورة مخيفة في السنوات الأخيرة، مع انشغال الحكومة، ببناء عاصمة جديدة، ومدن ومشروعات تنقل إليها مقرات الوزارات والكادر الإداري والطبقة الجديدة التي تصنعها، بعيدا عن الزحام. اختلط الحابل بالنابل، بعدما تحولت تلك الأسواق تدريجياً، إلى الاتجار في السلع المغشوشة والمهربة من الجمارك، ولا يدرك البضاعة الجيدة إلّا خبير.

خلف قسم الشرطة
خلف قسم شرطة "الموسكي" تنتشر مئات المحلات الكبرى لبيع الأدوات الكهربائية، تخص شبكات التوزيع والإنارة على الجهد المنخفض والمتوسط، اللازمة للبيوت والمصانع. يقابلك شباب على مدخل المنطقة، يحذرونك من شراء البضائع المقلدة أو المغشوشة، التي تؤدي إلى اندلاع حرائق في مصانع وتسبب كوارث يومية بالمنازل، بعد تركيبها بمدة.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

عيوب الصناعة المقلدة أو المغشوشة وفقا لخبير، لا يمكن معرفتها إلا بعد تشغيلها بفترة، فتظهر عيوب الصناعة بها، في صورة احتراق بالأسلاك الكهربائية، أو انفجار بلوحات التوزيع. يروي رئيس مجلس إدارة مصنع حكومي كبير، بشرق القاهرة لـ "العربي الجديد"، أن مصنعه تعرض لقرصنة إنتاجه من الكابلات ولوحات التوزيع والمحولات، من بعض العاملين به، الذين صنعوا نسخاً طبق الأصل، من لوحات التوزيع الألمانية، وأجزاء محولات الكهرباء التي ينتجها.
يؤكد رئيس الشركة الذي يرفض الإفصاح عن اسمه، أنّه رغم حصول العمال على مرتبات جيدة بالشركة، ألّا أنّهم تمكنوا من تحقيق ثروات طائلة، من سرقة الملكية الفكرية، فصنعوا المعدات بخامات رديئة، داخل منازلهم بمنطقة شبرا الخيمة وباسوس، شمال العاصمة، وبيعها في محلات وسط العاصمة والمحافظات.
يشير المسؤول إلى أنّه لجأ إلى فصل العاملين الذين ضبطوا متلبسين بسرقة التصميمات، من قبل شرطة الكهرباء، مع ذلك لم يستطع أن يلاحقهم، خارج نطاق المصنع، في وقت تمكنوا من التوسع في إنتاجهم المغشوش.

بؤر واسعة للغش
تشير تقارير وزارة التموين والتجارة الداخلية، المكلفة عبر أجهزتها الرقابية وضباط وزارة الداخلية، بضبط عمليات الغش التجاري، إلى وجود علاقة ثلاثية بين مراكز تجميع وتصنيع وتوزيع البضائع المغشوشة بالأسواق. تظهر عمليات الضبط، وجود بؤرة واسعة بمنطقة "الزبالين" بجوار جبل المقطم، وقلعة صلاح الدين شرقي القاهرة، إذ يتولى جامعو المخلفات وتجار "الروبابيكيا" تجميع وتهيئة عبوات الأغذية والمشروبات والمستحضرات الطبية الأصلية بأنواعها ومرطبات الشعر والوجه، وتنظيفها وتوفيرها لمصانع "بير السلم" التي تتولى إعادة تعبئتها وبيعها في الأسواق الشعبية، على أنّها منتج أصلى، لكن رخيص الثمن.

ألقت وزارة الداخلية القبض على عدد من أصحاب مصانع "باسوس" التي تحولت إلى أكبر منطقة صناعية لتقليد قطع غيار السيارات والمعدات طبية والصيدلانية، التي توزع علناً بمحلات وسط العاصمة، ويقبل عليها الجمهور لرخص أسعارها.

تلاعب حكومي
تنتشر بؤر للصناعات الزراعية المغشوشة، في الأقاليم، والأغرب اكتشاف إحدى شركات صناعة المواد الكيماوية بالجيزة، تابعة لجهاز حكومي، تتولى شراء وتعبئة وتوزيع المواد السامة والعضوية الزراعية، تتلاعب بمكونات منتجات تحتكر توزيعها.
يؤكد أستاذ بكلية الزراعة بجامعة القاهرة، أطلَعَ "العربي الجديد" على منتجات الشركة، وجود تغيير بالمواصفات الفنية للمنتج، بتعديل نسب المادة الفعالة، وشرائها من غير منتجها الأصلي، مقابل خفض السعر للمستهلك، بما يهدر دورها في مكافحة الآفات أو رفع إنتاجية المحاصيل. يبين الخبير الذي فضل عدم ذكر اسمه، أنّ الغش يحدث في كثير من الصناعات، إما لتحقيق عوائد ضخمة من المبيعات أو شح بالمواد الخام، التي يتعطل استيرادها من الخارج، أو رغبة البعض في المنافسة بخفض الأسعار، في ظل تراجع القوة الشرائية للمواطنين.

مصادر متنوعة
يقول رئيس حي البساتين (جنوب القاهرة)، اللواء عادل عباس في حديثه مع "العربي الجديد" إنّ مصادر السلع المغشوشة أصبحت متنوعة وشديدة التعقيد، حتى انتقلت من غش الأغذية والمشروبات إلى المنتجات الصناعية والزراعية والطبية. يؤكد رئيس الحي أنّه رغم تعدد الأجهزة الرقابية بالدولة، والتي تشمل مفتشي وزارة التموين والرقابة على الأدوية والمنتجات الصناعية والصيادلة، والأطباء البيطريين والبشريين وجهاز حماية المستهلك، وغيرهم، ترتفع معدلات جرائم الغش للسلع بأنواعها. ويلفت إلى أنّ الأجهزة الرقابية، في معظمهما لا تمارس عملها، وتترك الساحة مفتوحة أمام قلة من العاملين بالإدارات المحلية، التي لا تملك الأعداد البشرية ولا الإمكانات الفنية لضبط الأسواق، لذلك تصبح عمليات مكافحة الغش، مركزة وقت الأعياد أو مواسم المشتريات.

ويشير إلى أنّ تجربته في إدارة منطقة، بها مجازر اللحوم الحمراء والبيضاء وأسواق بيع السلع الرديئة والفارهة في نفس الوقت، جعلته يركز طاقاته، في محاربة بائعي اللحوم، بعدما اكتشف "جرائم ترتكب يومياً بحق المواطنين" مع تدفق اللحوم الفاسدة إلى الأسواق. ويؤكد أنّ القوانين الحالية لا تردع الغشاشين، لأنّها تحول دون التخلص من المنتجات الفاسدة بحرقها فور ضبطها بواسطة مفتشي التموين وموظفي الإدارة المحلية والأطباء، لافتاً إلى أنّ اللجنة تكتفي بتحرير محضر بالقضية، ليتمكن صاحب الشحنة وبدعم من معدومي الضمير من الموظفين، بإعادة بيعها خلسة في الأسواق، ليفلت بجريمته ويفوز بالأرباح.
يطالب بسرعة إقرار الدولة لقانون الإدارة المحلية الجديد، الذي يضع في يد البلديات سلطات واسعة للرقابة الشعبية والحكومية على الأسواق، ويوحد جهود تلك الجهات في ملاحقة الفاسدين ويمنحها سلطات واسعة لمصادرة السلع الفاسدة واعدامها فور اكتشافها، بواسطة اللجان المختصة.

شروع في القتل
رصدت تقارير رسمية، في الآونة الأخيرة، انتشار السلع المغشوشة، من زيوت وقطع غيار السيارات ومعدات الإنتاج، ومكسبات الطعم والعطارة والتوابل والشاي والقهوة.
يطالب رئيس المجلس المصري للشئون الصحية، والبرلماني السابق، محمد شرف، برفع عقوبة الغش التجاري والصناعي إلى جناية، وعدم الاكتفاء بأن تكون مجرد مخالفة عادية. يقول شرف في تصريح لـ"العربي الجديد": "تجب محاسبة الغشاش في صناعة الأدوية، بجريمة "الشروع في القتل" لأنه يقدم منتجه لأشخاص معلقة حياتهم بين الحياة والموت، فإذا كانت المواد الداخلة في الصناعة ضارة فالنتيجة موت المريض، وإذا لم تكن ضارة كالنشا والدقيق التي تضاف أحيانا في صناعة العقاقير، فإن المريض لن يعالج وسيتعرض للموت، وفي الحالتين وقعت جريمة الشروع في القتل.
يبرر شرف رغبته في تغليظ العقوبة، بأن المتلاعبين في الأدوية بخاصة، يغشون وهم يعلمون عواقب جريمتهم، إما بشراء خامات رخيصة، وتصنيعها في "بير السلم" (أي غير مرخصة) فيكون تأثيرها الطبي ضعيف، أو يضع التركيبة والخامات الصحيحة، ولكن بكميات أقل، وفي الحالتين هو غش خطر على حياة الإنسان.
يخضع الغش التجاري للقانون رقم 281 لسنة 1994، ويركز في مواده على الغش في المواد الغذائية، ولا يحاسب إلا حالات العمد، بالحبس لمدة لا تقل عن سنة ولا تتجاوز 5 سنوات، وبغرامة ما بين 10 آلاف و30 ألف جنيه أو إحدى هاتين العقوبتين.

كيف تُغشّ الأدوية؟
رصدت جمعية "الحق في الدواء" وفاة 5 أشخاص، إثر حقنهم بمضادات حيوية مغشوشة، خلال العام الحالي. وكشفت هيئة الدواء التابعة لوزارة الصحة، في بيان على موقعها الرسمي، عن وقوع غش تجاري في 15 صنف دوائي، منذ يناير/ كانون الثاني إلى مايو/ أيار 2022.

رصدت تقارير رسمية، في الآونة الأخيرة، انتشار السلع المغشوشة، من زيوت وقطع غيار السيارات ومعدات الإنتاج، ومكسبات الطعم والعطارة


وأكدت الهيئة تزايد ظاهرة الغش في الأدوية، والتي تنوعت بمنتجات الحبوب وقطرة العين والشراب والكريمات. تجرى عمليات الغش وفقا لتقارير الهيئة، عبر إضافة مواد غير فعالة، قد تحتوي على مواد قاتلة أو فعالة تصنع في ظروف رديئة وعبر عمال غير مؤهلين أو تتضمن شوائب ملوثة بالجراثيم، وتوضع بعبوات مزيفة. توزع العبوات الفاسدة عبر الأسواق الشعبية، ومخازن الأدوية البعيدة عن الرقابة الصيدلانية، وأحياناً على أرصفة الميادين العامة. ويلجأ بعض الموزعين، إلى تهريب أدوية أجنبية، وتغيير الكميات أو وضع إضافات غير شرعية، خصوصاً إلى الأدوية مرتفعة الثمن التي يطلبها مرضى السرطان والأورام والقلب. مع ذلك تقف هيئة الدواء عاجزة عن ممارسة دورها الطبيعي، في مواجهة الغش والمهربين، بعد تعديل قانون الرقابة الدوائية، رقم 151 لسنة 2019، الذي غلّ يدها عن مراقبة عمليات التصنيع والرقابة على شركات الإنتاج والتوزيع، وبدد خبراتها التي اكتسبها العاملون بها منذ عام 1963.
يؤكد برلمانيون، أنّ القانون جعل من صناع وتجار الأدوية، غير المهنيين لهم اليد العليا في السيطرة على صناعة الدواء، مع عدم توفير التمويل والأفراد المكلفين بالرقابة والقيام بالأبحاث اللازمة لمنح شهادات الصلاحية للأدوية.
أشار تقرير لمركز المعلومات بمجلس الوزراء إلى أنّ مبيعات الأدوية تقدر مع نهاية العام الحالي، بنحو 82.3 مليار جنيه (الدولار = نحو 24.2 جنيهاً)، ينتظر أن ترتفع إلى 112.6 مليار جنيه، عام 2026.
تمتلك مصر 145 مصنعاً للأدوية، 11 منها تابعة لقطاع الأعمال، و22 لشركات أجنبية، و1400 شركة تصنع دواء لحساب الغير تقدر استثماراتها بنحو 300 مليار جنيه.

المساهمون