الوعد والوعيد في ظروف الريبة والشك

02 يناير 2025
التطورات في سورية تشجع عودة اللاجئين، مخيم الزعتري في 26 يوليو 2022 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أهمية التكيف الاستراتيجي: يركز الكتاب على دور التكيف الاستراتيجي في مواجهة التحديات الأمنية في بيئة عدم التأكد، مشيرًا إلى أهمية التنسيق لمواجهة التغيرات التكنولوجية والجرائم المنظمة في الوطن العربي.

- التعاون العربي: يشدد الكتاب على ضرورة إنشاء شبكة مراكز بحثية عربية لدراسة التكيف مع الظروف الغامضة، مع التركيز على تبادل المعلومات والخبرات بين الدول العربية لمواجهة التحديات المشتركة.

- التعاون الأكاديمي: يبرز الكتاب أهمية التعاون الأكاديمي الاستراتيجي وعقد اجتماعات بين المختصين للاتفاق على المعلومات والمؤشرات المشتركة، مع الحفاظ على خصوصيات الدول.

أهداني مدير الأمن العام الأردني الدكتور عبيد الله عبد ربه المعايطه نسخة من كتابه الموسوم " أثر ممارسة التكيف الاستراتيجي في استراتيجيات إدارة الأزمات الأمنية في ظل بيئة عدم التأكد كمتغير وسيط في جهاز الأمن العام الأردني". والصادر عن جامعة مؤتة في جنوب الأردن العام 2023. وللحقيقة، سررت أن كتاباً علمياً ربما كان أطروحة الدكتوراه، قد وضع من مسؤول أمني يواجه ظروفاً متقلبة في إدارة الأمن.

وفي عنوان الكتاب نفسه هنالك عدد من المصطلحات التي تحتاج إلى تفسير. وأولها التكيف الاستراتيجي، وثانيها استراتيجيات إدارة الأزمات الأمنية، وثالثها بيئة عدم التأكد، ورابعها المتغير الوسيط ( كمتغير وسيط كما وردت في العنوان). وقد قرأت الكتاب بإمعان من أجل تقييمه علمياً كما وعدت المؤلف. وقد وجدت أنه كتاب علمي ممنهج، ويضع في الوقت نفسه خطة واضحة المعالم قابلة للتنفيذ ويقيم الأداء الأمني في الأردن بموضوعية محايدة، ويجترح معها المقترحات والحلول مطبقاً مبدأ " النقد الذاتي". 

وقد تساءلت بعدما أنهيت قراءة الكتاب ووضعته جانباً عن الموضوع برمته. فظروف الوطن العربي كلها غير واضحة المعالم، أو تكتنفها الضبابية كما يحلو للبعض أن يقول. والواقع أن كلمة Uncertainty بالانجليزية يمكن ترجمتها إلى "عدم التأكد"، أو "الغموض" أو "الضبابية" أو "الريبة" أو "الشك". وقد سبق للاقتصادي الأميركي الفائز بجائزة نوبل والمدعو" جون غالبريث"، أن ألّف كتاباً بعنوان The Age of Uncertainty، وترجم إلى العربية " عصر الشك".

ومصادر الشك أو عدم اليقين أو عدم التأكد تأتي هذه الأيام من مصادر لا حصر لها. أولها عدم استقرار الأوضاع في عدد كبير من أقطار العالم العربي، والتي تؤثر على التخطيط الاستراتيجي في دول عربية أخرى مجاورة. ولا يقف الأمر عند ذلك بل إن كل ما يحيط بالعالم من مظاهر سياسية واقتصادية وعسكرية وجيوسياسية متقلبة يصب مباشرة في صيرورة الأمور داخل الدول النامية، خاصة الدول الصغيرة المفتوحة على العالم بما فيه من حروب وفتن يصل تعدادها إلى حوالي ستة وخمسين من المتحركة وخمسين أخريات تنتظر من يشعل الفتيل.

ولا شك أن التغيرات التكنولوجية في العالم، وسرعة التقلب في الوسائل المستخدمة، والبرمجيات المطبقة والسلوكات الناجمة عنها، واستفحال فرص الجرائم التي قد تستخدمها العصابات المنظمة هي من أكثر ما يقلق رجال الأمن والاستخبارات في الوطن العربي. ولقد رأينا من الأمر الواقع كيف أدى فشل حكم النظام السوري السابق (عائلة الأسد) في السيطرة على الحكم في سورية إلى استفحال المشكلات الأمنية في بلد مجاور كالأردن، وما جَرّ عليه من كُلَفٍ إضافية وفرضت عليه ممارسات في التكيف الاستراتيجي الأمني كما يصفها د. عبيد الله باشا المعايطة في كتابه الذي أشرت إليه، وأعجبني اصطلاح مستخدم في هذا الإطار هو " التداؤب الاستراتيجي" وأعترف أنها المرة الأولى التي أقرأ فيها هذا الاصطلاح أو المصطلح ما سبّب لي نوعاً من الدهشة المصحوبة برفع الحواجب وفتح الفم من أقصاه إلى أقصاه تعجباً.

ولكنني لما قرأت عنه أكثر، وجدت أنه يعني Alignment، وهو اصطلاح لو بحثت عن معناه العربي لوجدت أنه يعني التنسيق، أو الانتظام، أو الرصف. ولكنه بعبارة أخرى يعني جلب الظروف إلى خط واحد يجعل المتصرف فيها قادراً على مواجهتها بشكل أكثر تنسيقاً. ولكن كلمة "تداؤب" المشتقة من "دأب" أثارت إعجابي، وهي لا شك أفضل الترجمات.

وتبرز أمام التكيف الاستراتيجي المطلوب في عالم ليس واضح المعالم والتوجهات مهمتان. الأولى هي درء المضار" وتجنبها والثانية هي "جلب المنافع"، فليس كل تغيير جديد هو تحد فقط، بل قد ينطوي على فرص سانحة يجب عدم تفويتها. ويذكرني هذا ببيت شعر لكعب بن زهير في قصيدته الموسومة "البردة" والتي طلب فيها الصفح الجميل من رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام حيث يقول في أحد الأبيات: "نُبئت أن رسول الله أوعدني... والعَفوُ عند رسول الله مأمول". ومن الواضح أن كلمة أوعد تعني "هدّد" أمّا "وَعدَ" فتعني الود في جلب الخير.

وعليه فإن في كل تغيير وإن بدا ضبابياً مثيراً للمخاوف إلا أن فيه الجانبين وهما الوعد ( بالخير) والوعيد ( بالشر والعقاب). ولذلك، تتطلب تكاملية التكيف الاستراتيجي مع الظروف المستجدة تعظيمَ الهدف وهو "تقليل عناصر الوعيد وجعلها تحت السيطرة وتقليص الضرر الناجم عنها أو إزالته"، والثانية هي التبصر في فسح الأمل للفرص المتاحة في هذا التعبير والسعي لتسليط الضوء عليها وتعظيم الفائدة منها". 

ولقد رأيت أن الكتاب الذي نحن بصدده يركز على البعد الأول أكثر من البعد الثاني. وقد يكون هذا الأمر ناتجاً عن المهمة الأساسية لرجل الأمن هي احتواء الضرر، وباحتواء الضرر تتجلى الفرص المتاحة والتي يمكن أن تقع خارج الاطار الأمني. وعلى سبيل المثال، فإن تقليل مخاطر تهريب المخدرات والأسلحة من سورية إلى الأردن يتيح المجال لزيادة التبادل التجاري، وتشجيع عودة اللاجئين، والسعي مع الولايات المتحدة من أجل إلغاء قانون قيصر الذي يحول دون التعاون مع سورية، ولكن الآن وحتى إلغاء القانون أو تغييره يمكن أن تتاح فرص للتصدير والتزويد لم تكن متاحة من قبل. 

وقد دفعتني قراءة الكتاب عن أثر ممارسة التكيف الاستراتيجي إلى التساؤل عن التكيف في الاستراتيجيات المطلوبة في عالم الاقتصاد والتجارة ، وعما إذا كانت الوسائل المطبقة في أساليب الأمن العام، أو حتى العسكر، تتماهى مع الوسائل المتبعة من قبلنا نحن معشرالاقتصاديين. وقد وجدت أن الباحث الدكتور المعايطة لم يهمل هذا الجانب، بل أشار إليه إلى القدر الذي يهمه من دون الخروج عن الهدف الأساسي لأطروحته.

وتفهماً مني لهذا الأمر، فقد وجدت دراستين هامتين ومكتوبتين بلغة انجليزية مفهومة وليست معقدة، ولربما يجد الباحثون المستجدون فيها ما يعينهم على كتابة أبحاث أو تقارير عن مراحل الشك وعدم التأكد، وأساليب الاستجابة معها في عالم الاقتصاد والأعمال.

أما البحث الأول فهو بعنوان " الدور الهام للتخطيط الاستراتيجي في عالم عدم التأكد" أو The Critical Role of Strategic Planning in Times of Uncertainty، وهو من تأليف كاترين مايدي وستيفن ماليكا Maidi and Malika من جنوب افريقيا، والمنشور على موقع ResearchGate في شهر نيسان/إبريل العام 2024. أما البحث الثاني فهو بعنوان "التخطيط الاستراتيجي في عصر الشك: خلق الوضوح في زمن الشك" والذي كتبته مارلا واتسون، والمنشور على الموقع الإلكتروني SceinceDirect الجزء 18، فبراير/ شباط 2020.

ونحن في الوطن العربي في حاجة ماسة إلى خلق شبكة من المراكز البحثية المختصة في دراسات التكيف والتعامل مع الظروف الغامضة والمستجدة. وهنالك وعي متزايد على مستوى كثير من الأقطار فرادى وجماعات في الوطن العربي بهذا الأمر، ولكن المطلوب هو التشبيك وتبادل المعلومات والخبرات، لأن مصادر الغموض التي سنضطر إلى التعامل معها في الوطن العربي متشابهة جداً.

وحفاظاً على ما يسمى بالسرية أو الأسرار الخاصة بالدول. فقد يكون من المطلوب البدء بعقد اجتماعات بين كبار المختصين للاتفاق على المعلومات، والمؤشرات والمتغيرات التي يمكن التعاون في خلقها وتبويبها وتصنيف ردود الفعل عليها وأساليب الاستفادة من الفرص المتاحة منها.

ولا شك أن هناك حدّاً أدنى من المعلومات والاستنتاجات القابلة للتبادل من دون الإجحاف بخصوصيات الدول، والتي تكتسب أهمية بالتعاون العربي وتوجيه ردة الفعل الجماعية عليها. فهنالك كثير من الأحداث التي ستقلقنا جميعاً، وهناك وسائل علمية مستوحاة من هذا التعاون الأكاديمي الاستراتيجي التي يمكن أن تنسق الجهد العربي نحو مواجهة سلبياتها وتعظيم إيجابياتها.

لقد أصبحت الدراسات الاستراتيجية ضرورة قصوى لأن الغموض لا ينشأ عن ظروف طارئة فحسب، ولكنه ينشأ أيضاً عن سرعة التواتر في الأحداث، وكثرة المعلومات الخاطئة والمشوشة Misinformation and disinformation التي يقوم بها أصحاب الذباب الإلكتروني عن قصد وسبق إصرار لتشويش الصورة وإعادة توجيه البوصلة نحو الأهداف الخاطئة.

لقد سعدت بقراءة كتاب الدكتور عبيد الله باشا المعايطة، والمكتوب بلغة عربية رصينة، والتقيد بالمنهجية العلمية في الكتابة بدءاً من اختيار الموضوعات، والمراجع، وتواتر الفصول بشكل منطقي جذاب، وانتهاءً في الفصل الأخير بالتوصيات. وهو كتاب يستحق التهنئة عليه.

المساهمون