إثارة السؤال الذي قد يعتبره بعضهم مفاجئاً، ناتجة من حقائق على الأرض عدة، وتستند لأرقام حققها الاقتصاد التركي منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2002 وحتى قبيل إجراء الانتخابات الأخيرة التي حصد فيها حزب العدالة والتنمية نحو 41% من أصوات الناخبين.
قبل عام 2002 كنا أمام حكومات انتقالية عمرها قصير وغير مستقرة... تذكرون طبعاً حكومة بولنت أجاويد، وكذلك تانسو تشيلر التي شكلت ثلاث حكومات خلال عامين، منها حكومتان خلال شهر واحد هو أكتوبر/تشرين الأول 1995، وحكومة بولنت أحمد التي استمرت أقل من خمسة أشهر فقط، وحكومة مسعود يلمظ التي استمرت نحو ستة أشهر وغيرها.
كان الوضع الاقتصادي في تركيا قبل عام 2002 يسير على النحو التالي: بلد يقترب من حافة الإفلاس، ولم يتبق فقط سوى إعلان إفلاسه رسمياً، ليس لديه موارد من النقد الأجنبي لسداد ديون مستحقة بقيمة 23 مليار دولار، موازنة حكومية خاوية تعاني عجزا حادا بسبب تراجع إيرادات الدولة، هروب متواصل للاستثمارات الأجنبية، أزمات اقتصادية ومعيشية متفاقمة، انهيار سعر صرف الليرة التركية وتراجع في قيمة العملة بنسبة مائة في المائة، ارتفاع الأسعار لمستويات قياسية، فقد كان التضخم يتجاوز 30% شهرياً و70% سنوياً في المتوسط.
وعلى مستوى القطاع المالي وجدنا إفلاساً لنصف البنوك التركية بسبب عجز عملائها عن سداد المديونيات المستحقة عليهم، خاصة الممنوحة بالنقد الأجنبي، وكذا تعثر المشروعات الممولة وإغلاق آلاف المصانع وخروج رجال الأعمال من السوق، والنتيجة معدلات بطالة خرافية دفعت الأتراك إلى البحث عن فرصة عمل في الخارج خاصة في دول الاتحاد الأوروبي.
أما الصادرات فلم تكن تتجاوز قيمتها 36 مليار دولار، وكان الرقم يكفي بالكاد لتمويل جزء من واردات البلاد وسداد الجزء الأصغر من التزامات الدولة الخارجية، ولم يتجاوز متوسط دخل الفرد السنوي 3300 دولار، وكانت هناك أزمة إسكان خانقة، وتدهور في البنية التحتية، وفساد مالي وإداري، وعمليات غسل أموال واسعة النطاق، وناتج قومي لا يتجاوز 230 مليار دولار.
ومع استلام حكومة حزب العدالة والتنمية الحكم في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2002 حدث تحول جذري في المشهد الاقتصادي نحو الأفضل، فقد تمكنت تركيا في وقت قياسي وخلال سنوات قليلة من إعادة بناء اقتصادها المتدهور، وسداد الديون الخارجية المستحقة عليها، بل ومنح قروض لصندوق النقد الدولي بقيمة خمسة مليارات دولار، في خطوة لم تقدم عليها سوى الدول ذات الاقتصادات القوية.
كما نجحت الدولة التركية في ملء خزانتها الخاوية بالأموال والإيرادات الضخمة، وأعادت الاعتبار لسعر صرف الليرة والهيبة للقطاع المصرفي والمالي، وجذبت استثمارات تجاوزت قيمتها 150 مليار دولار، وإقناع أصحاب 40 ألف شركة أجنبية بالعمل على أراضيها، مع تهيئة مناخ استثماري مناسب وقوانين منظمة لبيئة الأعمال، وزاد النّاتج القومي للبلاد بأكثر من ثلاثة أضعاف ليصل إلى 820 مليار دولار في 2013، والأهم من ذلك زيادة متوسط دخل الفرد السنوي ثلاثة أضعاف ليصل إلى 10800 دولار سنوياً.
اقرأ أيضا: تركيا.. من الإفلاس إلى الانتعاش في عهد أردوغان
وفي الوقت الذي كانت تتهاوى فيه الأسواق المالية العالمية والبورصات الكبرى في أغسطس/آب 2008 بسبب الأزمة المالية الخطرة، كانت تركيا تحقق إنجازات على الأرض، حيث احتل اقتصادها المرتبة السابعة عشرة عالمياً والسادسة أوروبياً، بل وبات اقتصادها يسبق اقتصادات دول كبرى منها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تحقق معدل نمو اقتصادي سلبي كانت تركيا تحقق معدلات نمو إيجابية وصلت في بعض السنوات إلى 9%.
وفى الوقت الذي شهدت فيه الاقتصادات الكبرى انكماشا، سواء على مستوى الصادرات أو جذب الاستثمارات الخارجية، كانت الصادرات التركية تغزو معظم دول العالم، فقد زادت قيمة الصادرات التركية إلى 158 مليار دولار في عام 2013 مقابل 36 مليار دولار في عام 2002 بزيادة أكثر من أربعة أضعاف، وفازت شركات المقاولات التركية بمناقصات تجاوزت قيمتها 260 مليار دولار، خاصة في منطقة الخليج وشمال أفريقيا وأوروبا الشرقية.
بعد كل هذه الأرقام نعود إلى سؤالنا الذي طرحناه في بداية المقال، وهو: ما الذي حدث إذن ودفع المواطن التركي إلى عدم التصويت بكثافة لحزب العدالة والتنمية الذي حقق له كل هذه الإنجازات الاقتصادية؟
لا يوجد عندي إجابة عن السؤال، ربما هناك أسباب سياسية وراء ذلك، منها أن أردوغان لم يعد هو الذي يقود الحزب، لأنه بات رئيساً لكل الأتراك، وربما بسبب تصاعد نسبة الأكراد في البرلمان الجديد، ولا أستطيع أن أقول إن الشعب التركي منكر للجميل، لأن هذا الاتهام غير صحيح على الإطلاق، ما أستطيع قوله هو أن الشعب التركي ذكي، ومن الصعب أن يضحي بالاستقرار السياسي والاقتصادي الذي نعم به طوال 13 عاما، وهو غير مستعد على الإطلاق للعودة إلى نقطة الصفر أو لحدود شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2002.
لأننا أمام سيناريوهين، الأول هو تشكيل حكومة ائتلافية بقيادة العدالة والتنمية، أو إجراء انتخابات مبكرة سيفوز فيها حزب العدالة والتنمية بأصوات أكبر بعد أن يدرك المواطن التركي أن التخلي عن هذا الخيار قد يعني فقدان المكتسبات الاقتصادية التي حصدها على مدى 13 عاماً.
في كل الأحوال.. نحن أمام تجربة ديمقراطية واقتصادية فريدة.. تجربة لن توقف حلم تركيا بأن تكون واحدة من أكبر خمسة اقتصادات عالمية بحلول عام 2020.
اقرأ أيضا: تزايد استثمارات السوريين في تركيا