المظالم الطبقية وسوء توزيع الثروة وسيطرة روسيا على مفاصل الاقتصاد يشعل احتجاجات كازاخستان

10 يناير 2022
من الاحتجاجات في كازاخستان (Getty)
+ الخط -

على الرغم من كثرة التفسيرات لأسباب اندلاع المظاهرات العنيفة التي شهدتها كازاخستان الأسبوع الماضي واتهام دول غربية بالتدخل، فإن العديد من الخبراء في الشؤون الاستراتيجية بدول آسيا الوسطى أو الجمهوريات السوفييتية السابقة يرون أن تركيز السلطة والثروة في البلاد لدى قلة بسيطة من المواطنين تحميها الحكومة عبر قبضة حديدية هي السبب الرئيسي وراء هذه الاحتجاجات العنيفة التي راح ضحيتها حتى الآن العشرات.

كما تعيش البلاد عقودا من التظلمات الثقافية والعرقية والدينية وتراكمات من عقود القمع الممنهج ضد السكان الأصليين الذي مارسته موسكو لحماية مصالحها الاقتصادية والمالية في بلد تملك الموارد الطبيعية والمساحات الشاسعة ومجاورة لروسيا.

وحتى الآن، يبدو أن تحرير أسعار الغاز الطبيعي المسال الذي يستخدم كوقود لنحو 70% من السيارات في كازاخستان وارتفاع سعره بنسبة مائة في المائة، هي الشرارة التي أطلقت هذه الثورة العنيفة التي لم تنته بعد.

تحرير أسعار الغاز الطبيعي الذي يستخدم كوقود لنحو 70% من السيارات وارتفاع سعره 100%، كانت الشرارة التي أطلقت التظاهرات الأخيرة

ولكن يلاحظ أن سعر الغاز الذي أطلق شرارة الاحتجاجات والبالغ 60 تنغي قبل رفع سعره إلى 120 تنغي في جنوب غربي البلاد، يعد أقل من سعره حتى في روسيا والدول المجاورة مثل طاجيكستان وقيرغيزستان.

وحسب وكالة تاس، عادت الحكومة الكازاخية إلى خفض الأسعار مجدداً بعد هذه الاحتجاجات، إذ أعلنت اللجنة الحكومية التي كلفها الرئيس قاسم جومارت توكاييف، عن خفض سعر الغاز إلى 50 تنغي (أو ما يعادل 0.11 دولار) لليتر بعد اجتماع مع المتظاهرين المحتجين على زيادة أسعار الوقود.

وبالتالي، فإن ارتفاع سعر الغاز ربما يكون هو الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات الشعبية، ولكن هناك غبن طبقي متراكم في البلاد منذ سنوات.

موقف
التحديثات الحية

هذه المظاهرات ليست الأولى التي شهدتها البلاد، فقد سبقتها مظاهرات خلال العقد الماضي من قبل عمال النفط. كما شهدت كازاخستان انتفاضات أخرى متفرقة ضد عدم المساواة في الأجور وحظوة الطبقة الحاكمة ومنسوبيها بالمزايا المالية والاقتصادية على حساب الفلاحين والبدو الذين يشكلون معظم سكان البلاد البالغ عددهم 18 مليون نسمة.

وكان رجل الأعمال وزير الطاقة والصناعة الأسبق، مختار أبلايزوف، قد سعى إلى إحداث تغيير سياسي عبر إنشاء حزب معارض للرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، ولكنه تعرّض للمحاكمة والسجن ست سنوات في عام 2001.

وتتهم الحكومة الكازاخستانية الوزير أبلايزوف الذي تم إطلاق سراحه في عام 2003 ويعيش الآن في أوروبا بأنه من بين المسؤولين عن تمويل الاحتجاجات الأخيرة في كازاخستان، وذلك وفقاً لما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال".

شهدت كازاخستان كذلك احتجاجات في عام 2008، حينما تراجعت أسعار النفط وتقلصت مداخيل الدولة وعاشت البلاد اضطرابات اتسم بعضها بالعنف

كما شهدت كازاخستان كذلك احتجاجات في عام 2008، حينما تراجعت أسعار النفط وتقلصت مداخيل الدولة وعاشت البلاد اضطرابات اتسم بعضها بالعنف. كما عاشت البلاد كذلك اضطرابات شديدة حينما تراجعت قيمة العملة الكازاخستانية (تنغي) في عام 2014.

على صعيد تركيز الثروة والسلطة في يد فئة قليلة، فإن ابنة الرئيس السابق نزارباييف، دينارا، أصبحت المتحدثة باسم البرلمان في المآتا في عام 2020، أي أنها باتت تحتل ثاني أقوى منصب سياسي في البلاد، كما أن زوجها بنى أكبر إمبراطورية مالية في كازاخستان، حسب ما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال".

ولا يزال الرئيس الكازاخستاني السابق نور سلطان نزار باييف يتحكم في مسار شؤون الحكم والثروة من وراء الكواليس، على الرغم من إعلانه اعتزال الحكم وتسليمه السلطة للرئيس الحالي قاسم جومارت توكاييف.

وبنى نزارباييف خلال حكمه نظاماً سياسياً أوتوقراطياً ركز السلطة والثروة في يد أقربائه، بات من الصعب تخطيه في البلاد. وحظي الرجل في السنوات الأولى من استقلال كازاخستان بتأييد من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

إذ سعى في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، إلى كسب ود الدول الغربية عبر مجموعة من الخطوات، كان أهمها تخلي كازاخستان عن ترسانة الأسلحة الذرية التي ورثتها البلاد من العهد السوفييتي. ثم دعم باييف هذه العلاقات لاحقاً عبر السماح لشركات الطاقة الغربية بالكشف عن النفط والغاز الطبيعي في البلاد.

وكانت الولايات المتحدة تأمل في نقل الغاز الطبيعي من دول حوض بحر قزوين إلى حلفائها في باكستان. 

بنى نزارباييف خلال حكمه نظاماً سياسياً أوتوقراطياً ركز السلطة والثروة في يد أقربائه، بات من الصعب تخطيه في البلاد

في هذا الشأن، قال السفير الأميركي السابق في المآتا، وليام كورتيني، لصحيفة "وول ستريت جورنال": بدأ الرئيس نزارباييف حكمه بخسائر أقل مقارنة بحكام الجمهوريات السوفييتية السابقة، ولكنه ومع مرور الوقت نفذ القليل من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، كما أن حكمه تحول إلى حكم أوتوقراطي ضيق الحريات على المواطنين".

ويلاحظ أن كازاخستان تعد ذات موقع استراتيجي من الناحية الجغرافية بالنسبة لأمن روسيا، وربما تفوق في الأهمية أوكرانيا، إذ إنها صاحبة أطول حدود مع روسيا، وهي بلد تبلغ مساحته 2.7 مليون متر مربع يسكنها فقط 18 مليون نسمة، وهي غنية بالثروات الطبيعية، خاصة تلك التي تصنع المستقبل، إذ إن هذه المساحات تجعل من كازاخستان سلة غذاء في العالم، كما أن ثروتها من اليورانيوم تجعلها من أهم المصادر لتوليد الطاقة النووية النظيفة في العالم.

تنتج كازاخستان نحو 20 ألف طن سنوياً من اليورانيوم، حسب بيانات وكالة الطاقة الذرية الدولية. وتشرف الوكالة على مواقع إنتاج اليورانيوم في البلاد.

وحسب البيانات الرسمية لدى كازاخستان، فإن احتياطات البلاد من اليورانيوم تقدر بنحو 1.5 مليون طن. وكان نائب وزير الطاقة في كازاخستان، أسد ماكوف، قد أعلن في منتصف مايو/أيار 2019، أن احتياطي اليورانيوم في البلاد بلغ 1.5 مليون طن، لتحتل بلاده المرتبة الأولى عالميا في إنتاج اليورانيوم.

وأضاف ماكوف في كلمته وقتها أمام البرلمان، أن بلاده تحتل مكانا هاما في مجال إنتاج اليورانيوم بالعالم، وأنها أنتجت نحو 21.6 ألف طن من اليورانيوم في عام 2018.

تصدّر كازاخستان اليورانيوم الذي تنتجه إلى كل من الصين، والولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، واليابان، والهند، ودول الاتحاد الأوروبي

وأوضح أن بلاده عملت مع الصين على بناء مصنع للوقود النووي في مدينة أوسكمان الكازاخية. وأشار إلى أن بلاده تنتج أكثر من 20 ألف طن من اليورانيوم عبر 20 حقلاً في مقاطعتي كيزيلوردة وأكمولا جنوبي البلاد.

وتصدّر كازاخستان اليورانيوم الذي تنتجه إلى كل من الصين، والولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، واليابان، والهند، ودول الاتحاد الأوروبي.

وبالتالي، فإن الاستقرار السياسي في كازاخستان يمثل أهمية قصوى بالنسبة للعديد من الدول الكبرى في العالم. وربما يفسر ذلك السرعة التي تدخلت بها الحكومة الروسية عسكرياً للسيطرة على الأمن في البلاد.

ووفق محللين غربيين، فإن الهيمنة الروسية على كازاخستان تؤدي عملياً إلى سيطرة موسكو جزئياً على طريق الحرير الذي يربط مشاريع التجارة والبنى التحتية بين الصين والعواصم الأوروبية، عبر قطارات السكك الحديدية التي أنشئت ضمن مبادرة "الحزام والطريق" الصينية.

ولدى الشركات الصينية استثمارات تقدر بنحو 27.6 مليار دولار في مشروعات النفط والغاز في كازاخستان، وفقاً لبيانات الحوار الاستراتيجي الصيني الكازاخي في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019.

وتمثل هذه الاستثمارات نحو 50% فقط من إجمالي الاستثمارات الصينية في كازاخستان، وهو ما يعني أن لدى الصين استثمارا يفوق 55 مليار دولار في كازاخستان.

وبالتالي، فإن كازاخستان تعد دولة استراتيجية للاقتصاد الصيني، من حيث استيراد الطاقة النووية والنفط والغاز الطبيعي، ومن حيث موقعها الجغرافي في مبادرة "الحزام والطريق".

المساهمون