من المؤكد أن الانخفاضات المتتالية لليرة التركية باتت صانعة للكثير من علامات الاستفهام حول أداء الاقتصاد التركي، خاصة في ظل النجاح في تحقيق مؤشرات اقتصادية قوية كان من المفترض أن تنعكس ايجابيا على قيمة العملة، بالإضافة إلى حالة الاستقرار السياسي التي استمرت منذ الانقلاب الفاشل عام 2016 وحتى نجاح الرئيس رجب طيب أردوغان والحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة.
وجاءت الانخفاضات المتتالية لقيمة الليرة في الأيام الأخيرة نافية لجملة من الأسباب التي كانت تروج خلال الفترة الماضية كذرائع لتلك الانخفاضات، فلم يعد متصوراً أن مضاربات خارجية تستهدف الادارة التركية التي أثبتت بفوزها الأخير وثبات مواقفها ونجاحاتها الإقليمية والدولية أنها عصية على الانكسار خاصة وأن تجارب الانخفاض الحاد لليرة لم تمنع الفوز المريح بمقعد الرئاسة أو الأغلبية البرلمانية.
كما أن الانخفاض المتعمد، الذي كنت أتبناه شخصيا سابقا، انتفى تماما كسبب منطقي خاصة أن ارتفاع معدل التضخم في البلاد إلى حدود 100% تقريبا قبيل الانتخابات شكل ورقة ضغط مهمة في يد المعارضة، واضطرت الحكومة إلى رفع الحد الأدنى للأجور لأكثر من مرة، حتي بدا أن تركيا تسير في دائرة مفرغة من رفع الأجور، فانخفاض الليرة، فرفع الأجور مرة أخرى، دون معرفة كيف أو متي يمكن الخروج من هذه الدائرة الخبيثة، والتي ولا شك أنها أضفت حالة من الاهتزاز العنيف ليس فقط لميزانية الأسرة والمواطنين ولكن أيضا للشركات العاملة في السوق المحلي.
أعلنت الحكومة عن تحقيق معدل نمو بلغ 4% بنهاية الربع الأول من العام الحالي
البنك المركزي التركي أعلن بالتزامن مع هذا الانخفاض الحاد لليرة عن ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي بقيمة مليارَي دولار، ليبلغ 100 مليار و486 مليون دولار بنهاية مايو الماضي، كما أعلنت الحكومة عن تحقيق معدل نمو بلغ 4% بنهاية الربع الأول من العام الحالي، ولا تزال السياحة والصادرات تحقق أرقاما قياسية جديدة، إذا فما الذي يضغط علي الليرة ويتسبب في هذه الانهيارات المستمرة؟
الديون الخارجية الحلقة المفقودة في أسباب انهيارات الليرة التركية
الانهيارات المتوالية لليرة لم تأخذ نفس مسار شح العملات الأجنبية في الدول الأخرى، فلا تزال محلات الصرافة العادية في الشوارع تتعامل بكل اعتيادية بيعا وشراء، ولم يمنع أي بنك تركي بيع وشراء الدولار ولم تضع كذلك قيودا على السحب أو التحويل أو على استخدام البطاقات الائتمانية في الداخل أو الخارج، وكلها مشاهد باتت معتادة رغم كل هذه الانخفاضات للعملة المحلية، وهو الأمر الذي يفسر بالكميات الضخمة من العملات الأجنبية الداخلة والخارجة من تركيا والناجمة عن الأنشطة الاقتصادية المتعلقة بالعالم الخارجي والتي تتصاعد مؤشراتها بصورة كبيرة خلال سنوات ما بعد كورونا.
والحقيقة أن فاتورة الديون الخارجية قصيرة الأجل ومستحقة الدفع خلال عام والبالغة ما يقارب 450 مليار دولار تقريبا هي المتسبب الرئيس في الضغط على العملة المحلية، بالإضافة إلى استمرار عجز الميزان الجاري، فعلى الرغم من اكتشافات الغاز والبترول الأخيرة والتي ساهمت نسبيا في خفض فاتورة واردات الطاقة، الا أنه لا تزال هذه الفاتورة تشكل عامل ضغط شديد على عجز الميزان التجاري، كما أن الواردات المكثفة للسلع الوسيطة والتي تحتاجها الصناعة والصادرات التركية تشكل عاملا آخر، ولكن يظل رقم الديون الخارجية هو الضاغط الأكبر والأهم في انخفاض الليرة.
اعتمدت إدارة أردوغان بعد صعوده للحكم في مطلع الألفية الجديدة على نموذج تنموي يدفع ويساعد الطبقة الصاعدة من رجال الأعمال على الاقتراض الخارجي لا سيما من البنوك الأوروبية، ومع اتساع حجم الاقتصاد التركي وثبات جدارته التنافسية في أسواق الصادرات حول العالم واحتياجه الدائم للتوسع استجابة للطلب الخارجي المتصاعد على منتجاته، توسع حجم الاقتراض الخارجي (التجاري) قصير الأجل خاصة في ظل انخفاض أسعار الفائدة في البنوك الأوربية إلى حدود الصفر تقريبا في فترة ما قبل كورونا، وإلى أسعار فائدة أقل كثيرا من البنوك المحلية التركية حتى بعد سياسات التشديد النقدي التي اتبعتها البنوك الأميركية والأوربية بداية من النصف الثاني من العام الماضي تقريبا.
من الأمور شديدة الأهمية في هذا الإطار أن المديونية الخارجية قصيرة الأجل باتت تزحف ببطء نحو الحكومة
واعتمد القطاع الخاص التركي على سياسة تدوير القروض والتي تعني اقتراضا جديدا لسد القروض واجبة السداد، ولعل ذلك ما يفسر النسبة المحدودة لحالات الإفلاس للشركات التركية المرتبطة بمنتجات تصديرية، كما أنه يفسر كذلك ما يمكن تسميته بمواسم الانهيار لليرة، وهي أوقات بات من الممكن توقعها لانهيار العملة ومنها على سبيل المثال نهاية العام المالي، ومنتصف العام المالي وما يعرف بفترات تقفيل الحسابات في البنوك الأوروبية.
بالإضافة إلى أنه يفسر كذلك حجم الانهيارات الحادة المفاجئة لليرة، حيث اعتاد الأتراك خلال السنوات الأخيرة الاستيقاظ صباحا على أخبار تلك الانخفاضات الحادة والواردة من البورصات الآسيوية والتي تبدأ أعمالها لظروف اختلاف التوقيت في أوقات إغلاق البورصات التركية، وتأتي النسب المرتفعة للانخفاضات كنتيجة لاحتياج المدينين من رجال الأعمال الأتراك لسداد أقساطهم واضطرارهم لجمع العملات الأجنبية بأي سعر، بل والمضاربة على الأسعار لتوفير احتياجاتهم قبل انتهاء موعد السداد وتحولهم إلى القائمة السوداء لدى البنوك الأوروبية التي يتعاملون معها.
من الأمور شديدة الأهمية في هذا الإطار أن المديونية الخارجية قصيرة الأجل باتت تزحف ببطء نحو الحكومة، فقد كان نصيب الحكومة من تلك الديون لا يتجاوز 15% خلال العقد قبل الماضي، بينما تزايد إلى حدود تزيد عن 20% بنهاية العقد الماضي، ثم تصاعد بشدة إلى ما يقارب 40% بنهاية العام الماضي، وهو ما يعني أن الحكومة التركية انزلقت إلى مستنقع الديون الخارجية وربما جاء ذلك في إطار محاولاتها التدخلية للحفاظ على انخفاضات مقبولة لليرة من وجهة نظرها.
ولعل تصاعد نصيب الحكومة من الديون التركية مفسر آخر للضغوط الكبيرة عليها، بالإضافة إلى تفسير نسب الانهيارات الكبيرة التي باتت معتادة في السنوات الأخيرة، ولكن السؤال الذي يلح حاليا هو مستقبل الليرة خاصة بعد الحكومة الجديدة.
توقعات غير متفائلة لديون تركيا في الأجلين القصير والمتوسط لديون
أشار الإسهاب السابق بوضوح إلى تسبب المديونية الخارجية قصيرة الأجل في الضغوطات الشديدة التي تتعرض لها الليرة، وكذلك إلى أن أعباء تلك القروض بدأت في التحول من القطاع الخاص إلى الحكومة، ومع عجز الميزان الجاري وضخامة مبالغ تلك القروض يمكن القول إن معالجة تلك الفجوات تتطلب وقتا طويلا، فمهما كانت إجراءات الحكومة الجديدة فمن الصعوبة الكبيرة مواجهتها الشاملة لتلك الضغوطات، الأمر الذي يعني استمرار انخفاضات الليرة خلال الأجلين القصير والمتوسط.
ربما تتمكن الإجراءات الحكومية والتي وصفها وزير المالية الجديد محمد شيمشك بأنها يجب أن تكون أكثر عقلانية من خفض نسب الانخفاض وتباعد فتراته الزمنية ولكن سيبقى الانخفاض مستمرا خاصة في الأجل القصير، وسيبقى السؤال الملح حول البدائل المتاحة أمام الحكومة للسيطرة على نسب الانخفاضات.