الليرة اللبنانية تستكمل مسار الهبوط

18 أكتوبر 2021
الليرة اللبنانية تواصل السقوط (حسين بيضون)
+ الخط -

سجّلت الليرة اللبنانيّة هبوطاً مفاجئاً وسريعاً في قيمتها يوم الخميس الماضي، بالتوازي مع الاشتباكات المذهبيّة التي كانت تحصل في بعض أحياء ضواحي العاصمة بيروت، ليتجاوز سعر الدولار مقابل الليرة في السوق الموازية 21.150 ليرة للدولار في ذلك اليوم. 
بالتأكيد، لم يكن العامل الأمني وحده ما دفع سوق القطع إلى التوتّر بهذا الشكل، بل كان من الواضح أن الخلاف حول موضوع تحقيقات المرفأ، الذي فجّر الوضع في الشارع، تمكّن أيضاً من شلّ عمل الحكومة نفسها. 
وبذلك باتت قدرة الحكومة على التعامل مع جميع الملفات الماليّة الشائكة على المحك، وهو ما فاقم من توجّس الأسواق من مآلات الأزمة الاقتصاديّة. 

لا يمكن القول إن عودة الليرة إلى مسار الهبوط مرتبطة حصراً بتطورات الأيام الماضية، المتصلة بملف التحقيقات وما نجم عنه من اشتباكات أمنية في الشارع وسياسيّة داخل الحكومة

ومع كل هذا، لا يمكن القول إن عودة الليرة إلى مسار الهبوط مرتبطة حصراً بتطورات الأيام الماضية، المتصلة بملف التحقيقات وما نجم عنه من اشتباكات أمنية في الشارع وسياسيّة داخل الحكومة

ففي بداية الأسبوع الماضي مثلاً، وقبل أن تدخل البلاد دوّامة هذه الاشتباكات، كان سعر الدولار قد تجاوز 19.350 ليرة، مقارنةً بنحو 13.650 ليرة فقط في 16 سبتمبر/ أيلول الماضي. 
بمعنى آخر، وبعدما تحسّنت قيمة الليرة وانخفض سعر الدولار في السوق الموازية في منتصف سبتمبر الماضي، نتيجة الأجواء التفاؤليّة التي رافقت تشكيل الحكومة الجديدة، عادت الليرة لتستكمل مسار هبوطها القاسي. ومنذ منتصف سبتمبر وحتّى بداية الأسبوع الماضي، أي خلال فترة لا تتجاوز 25 يوماً، ارتفع سعر الدولار في السوق الموازية تدريجاً بنسبة 41%، ما يعبّر عن حجم الهبوط الحاد والمستمر في قيمة الليرة. 

يرتبط مسار الهبوط الحاد في قيمة الليرة بجملة من العوامل النقديّة والماليّة والسياسيّة، التي يبدو أنّها ستستمر بأداء الدور نفسه خلال الأسابيع المقبلة. 
أبرز هذه العوامل يتصل بطريقة وقف الدعم عن استيراد المحروقات، وخصوصاً مادّة المازوت، وأثر هذه التطورات في توازنات العرض والطلب في السوق السوداء.
فمنذ حدوث الانهيار المالي، استمر المصرف المركزي بتوفير الدولارات المطلوبة لاستيراد المحروقات ومجموعة من السلع الأساسيّة الأخرى من احتياطات العملة الصعبة الموجودة لديه، ووفقاً لأسعار صرف مدعومة. 
وبعد استنزاف ما يمكن استخدامه من هذه الاحتياطات، واقتصار ما بقي منها على الاحتياطي الإلزامي الذي فُرض على المصارف إيداعه في المصرف المركزي كضمانة لأموال المودعين، بدأت عمليّة الخروج من آليات دعم الاستيراد. 
بالنسبة إلى مادّة المازوت بالتحديد، قرر المصرف المركزي رفع الدعم عنها كلياً، والانسحاب من مهمّة تأمين الدولارات للمستوردين بشكل كلّي. ولذلك، بات على المستوردين التوجّه إلى السوق الموازية لتأمين الدولارات المطلوبة لاستيراد المادّة، ومن ثم بيع المازوت في السوق المحليّة بالدولار النقدي. 

في المقابل، سلّمت وزارة الطاقة نفسها بهذا النموذج من العمليات التجاريّة، فصار تسعير المازوت في جداول الأسعار الرسمي يعتمد على كلفته بالدولار النقدي، وسعر صرف الدولار في السوق الموازية. 
النتيجة الطبيعيّة لكل هذه التطورات كانت حصول ارتفاع مفاجئ وسريع في قيمة الطلب اليومي على الدولار النقدي في السوق الموازية، ما أدّى إلى الضغط على سعر صرف الليرة في هذه السوق منذ منتصف شهر أيلول/سبتمبر الماضي. مع الإشارة إلى أن فاتورة استيراد المازوت شهريّاً لتأمين حاجة السوق المحلّي تتجاوز 260 مليون دولار، وهي فاتورة كبيرة قياساً بحجم السوق الموازية التي تؤمّن حالياً هذه الدولارات. 
الإشكاليّة الأكبر كمنت في انسحاب المصرف المركزي من مهمّة تأمين الدولار لمستوردي المازوت، دون أن يمتلك المصرف خطة واضحة لكيفيّة تعويم الليرة وتوحيد أسعار الصرف بعد إلغاء أسعار الصرف المدعومة، ودون أن يمتلك تصوّراً لكيفيّة خلق سوق قطع منتظمة ومستقرّة من داخل النظام المالي الشرعي نفسه.
ولعلّ هذه الإشكاليّة ترتبط بدورها بأزمة عدم معالجة الخسائر المتراكمة داخل النظام المالي، التي أدّت إلى فقدان النظام المالي قدرة جذب التحويلات الماليّة من الخارج، واستقطاب الدولارات الطازجة الكفيلة بخلق سوق القطع المنتظمة وتوحيد وتعويم سعر الصرف بشكل مستقر.
في كلّ الحالات، بالنسبة إلى مادّة البنزين، قرر مصرف لبنان أيضاً وقف اعتماد أسعار الصرف المدعومة لبيع الدولارات المطلوبة لاستيراد هذه المادّة. لكن بخلاف مادّة المازوت، ما زال مصرف لبنان يؤمّن، بشكل مؤقّت وانتقالي، هذه الدولارات من خلال بيعها على أساس سعر منصّته المستحدثة لبيع العملات الأجنبيّة. 

موقف
التحديثات الحية

لكن ما إن يقرر المصرف المركزي الانسحاب من هذا الدور، وإحالة مستوردي البنزين على السوق الموازية لتأمين الدولارات المطلوبة للاستيراد، ستكون الأسواق مجدداً على موعد مع مزيد من الضغط على سعر الليرة. 
مسار رفع الدعم لم يكن العامل الوحيد الذي استمرّ بالضغط على سعر صرف الليرة طوال الفترة الماضية. ففي الوقت الراهن، ما زال المصرف المركزي يعتمد على عمليّة خلق النقد بالعملة المحليّة لإقراض الدولة، لتمويل العجز في ميزانيّتها ونفقاتها الجارية، ومنها كتلة الأجور والرواتب الشهريّة التي تُدفَع لموظفي القطاع العام ومياوميه. 
وبما أن البلاد تعتمد على الاستيراد لتأمين حاجاتها الاستهلاكيّة، فكل ما يُضَخّ في السوق من سيولة بالعملة المحليّة سيتحوّل تلقائيّاً إلى طلب على الدولار الأميركي للاستيراد.

يمكن المصرف المركزي أن يضع خريطة الطريق المطلوبة لتوحيد أسعار الصرف وتعويم الليرة، بوجود أداة تداول بالعملات الأجنبيّة

وبالعودة إلى أرقام وزارة الماليّة، يتبيّن أن العجز في الميزانيّة العامّة بلغ في الربع الأوّل من هذه السنة حدود الـ824.56 مليون دولار، وهو عجز مُوِّل بالاقتراض بالليرة اللبنانيّة من مصرف لبنان. 
ومن الناحية العمليّة، يمثّل هذا الرقم مؤشّراً على الحجم الضخم للسيولة التي يجري خلقها بالعملة المحليّة دورياً لتمويل إنفاق الدولة، والتي ستستمر بالتأثير في سعر صرف الليرة على المدى المتوسّط، بمعزل عن أي تطورات إيجابيّة كتلك التي أدت إلى تحسّن مؤقّت في قيمة الليرة في منتصف شهر سبتمبر. مع الإشارة إلى أن حالة التعثّر التي تمرّ بها الدولة اللبنانية اليوم لا تسمح لها بالاقتراض من أي مصدر، باستثناء المصرف المركزي القادر على خلق النقد بالليرة. 

موقف
التحديثات الحية

لكلّ هذه الأسباب، من غير المتوقّع أن تتمكّن الحكومة من ضبط سعر الدولار مقابل الليرة في السوق الموازية دون إطلاق رزمة شاملة من الإصلاحات، التي تبدأ أولاً من إعادة الانتظام إلى ماليّة الدولة، والحدّ من حاجتها للاقتراض من مصرف لبنان لتمويل نفقاتها. وعلى رزمة الإصلاحات أن تشمل حكماً معالجة كتلة الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي، التي تمنعه اليوم من اجتذاب التحويلات بالعملة الصعبة من الخارج. 
بعدها، يمكن المصرف المركزي أن يضع خريطة الطريق المطلوبة لتوحيد أسعار الصرف وتعويم الليرة، بوجود أداة تداول بالعملات الأجنبيّة قادرة على الحلول مكان السوق الموازية الخارجة عن أيّ ضوابط أو رقابة، والتي لا يملك المصرف المركزي القدرة على التدخّل فيها.

المساهمون