بدأ موسم توريد القمح، من المزارعين بالمحافظات، للصوامع الحكومية على استحياء طوال الأسبوع الماضي.
استبق النظام المصري الموعد السنوي لبدء موسم الحصاد بأسبوعين، حينما ظهر بكامل قياداته، وأذرعه الأمنية والإعلامية، ليرسل من أقصى جنوب الوادي، رسالة، اعتبرها "طمأنة" للمصريين، على أن لديه احتياطيا من القمح، يكفيهم حتى نهاية العام.
كان غريبا أن يختار النظام مشروع "توشكى" الذي توقف العمل به لمدة 4 سنوات، ولا تزيد مساحته على 20 ألف فدان، بعد أن آل لشركة عسكرية، ليصبح منصة الاحتفال بموسم توريد القمح، بدلا من المحافظات التي تزرع نحو 3.65 ملايين فدان، والأعلى في الإنتاجية، مثلما اعتاد الرؤساء السابقون تكريمها من قبل، مثل الشرقية والمنوفية والدقهلية والفيوم.
حالة القلق التي أصابت النظام من حديث أهل الخبرة والمواطنين، عن إمكانية تعرض البلاد لأزمة غذاء خطيرة، دفعته إلى الإسراع والمبالغة في توجيه رسائل اطمئنان، قبل أن يكتمل نضوج القمح فعليا بالمزارع. كلمات النظام، تكررت نصاً في الصحف المدارة، والإعلام الموجه، على مدار الأيام الماضية، ليبين أن الحكومة تستطيع توفير رغيف الخبز لكلّ المصريين، في دولة تستورد 60% من احتياجاتها سنوياً.
وتؤكد منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" أنّ 85% من سكان مصر يعتمدون على الخبز لتوفير السعرات الحرارية والبروتين لأجسادهم، مع صعوبة حصولهم على وجبة صحية بدونه.
انخفاض المخزون
يتعجل المحافظون جمع الكميات المطلوبة منهم، وفقاً لأوامر اللجنة العليا لإدارة أزمة القمح، فمنع محافظ الإسماعيلية اللواء شريف بشارة، السيارات المحملة بالقمح، من مغادرة حدود المحافظة، قبل تحقيق المستهدف له، بجمع 84 ألف طن من المزارعين المسجلين لديه، ممن زرعوا 84 ألف فدانا خلال الموسم الحالي، دفعت محافظة الشرقية بإحدى عشرة ماكينة للحصاد التي تملكها، إلى مساعدة الفلاحين، على مساحات، تمتد آلاف الكيلومترات.
المدهش أنّها المحافظة الأولى في الإنتاج، على مدار السنوات السبع الماضية، لناحية الكمية والمساحة. ووَردَ الفلاحون في البداية 50 طناً في أسيوط، و126 طناً في سوهاج، و42 طناً في بورسعيد، وسار على النهج مزارعو المنيا والبحيرة، بينما الإسكندرية لم تعد بالكثير.
ترجع كميات التوريد القليلة، إلى تأخير المزارعين للحصاد، لعدم النضج التام بالمحصول في أراضي وداي النيل، مع استمرار موجة البرد على البلاد، حتى منتصف إبريل/ نيسان الحالي، وارتفاع أجور العمالة في شهر رمضان، والأهم أن الجميع ينتظر ماذا ستفعل الحكومة بهم، إذا ما رفضوا تسليم المحصول قسرا إلى الجهات الحكومية.
تتعجل الحكومة التوريد من المزارعين، بعدما انخفض الاحتياطي الاستراتيجي بمخازن الغلال الرسمية، إلى 2.6 مليون طن الشهر الماضي، وفقاً لتصريحات وزارة التموين. بحسبة بسيطة، تدرك أن مصر التي تستهلك نحو 20 مليون طن سنويا، من القمح، تحتاج إلى 1.6 مليون طن شهرياً، بما يعني أنّ المخازن والصوامع، التي تبلغ سعتها وفقا لمركز معلومات مجلس الوزراء، نحو 4 ملايين طن، في حاجة إلى الملء السريع، بعد أن أوشكت على النفاد.
الفلاحون يرفضون الأسعار الحكومية
استبقت الحكومة تململ المزارعين، برفع أسعار التوريد عن العام الماضي، بنحو 100 جنيه للإردب (الطن المتري يعادل 6.6 إردبات)، ليصل إلى ما بين 865 و885 جنيهاً، وفقاً لدرجة النقاوة، بما يعادل 5800 جنيه (385 دولاراً) للطن.
يرفض الفلاحون السعر المعلن من الحكومة، التي يتهمونها، بأنها تخلت عن دعمها لهم، منذ سنوات، إذ يحصلون على الأسمدة والمبيدات، والتقاوي (البذور) بالأسعار العالمية، بالإضافة إلى رفعها المتكرر لأسعار الوقود والخدمات، ويعتقدون أنّ أقل سعر يجب أن تدفعه الدولة، 1000 جنيه للإردب.
وسبق لنقيب الفلاحين صدام أبو حسين، أن حذّر الحكومة من عدم انصياع تسليم المزارعين للقمح، إذا قل سعر الشراء، عن 1000 جنيه، مستشهداً بارتفاع تكلفة الزراعة، وزيادة الأسعار العالمية، التي دفعت الحكومة إلى شراء آخر شحنة من رومانيا وفرنسا بسعر 410 دولارات للطن، عدا تكلفة الشحن، التي تبلغ 40 دولاراً للطن. يطلع المزارعون على أخبار القمح من وسائل الإعلام، ويعلمون أنّ الحكومة ترغب بشراء قمح رخيص من الهند، قد لا يظل سعره عند 335 دولاراً للطن.
ورغم سوء جودته عند صناعة المعجنات والخبز الجيد والمعكرونة، ووجود أمراض وشوائب تحتاج إلى مبيدات حشرية للقضاء عليها، قبل دخوله البلاد، وعند التخزين، فإن تكلفة الشحن من الهند تبلغ 70 دولاراً للطن، وفقاً للأسعار المعلنة.
يعلم مزارع القمح، أنّ حقه مهضوم، منذ تخلت الحكومة، عن دعم المحاصيل، في ثمانينيات القرن الماضي، وبلغ الأمر أن طلبت حكومة عاطف عبيد بعد وصولها للسلطة عام 1999، أن تلغى دورة زراعة المحاصيل التي لا تحقق عائداً كبيراً.
وسارت حكومة أحمد نظيف منذ عام 2003، على نفس النهج، وزاد الأمر حين تهكم وزير المالية السابق، يوسف بطرس غالي، من نواب البرلمان، الذين انتفضوا طلباً لدعم المزارعين، تحت قبة البرلمان، لأنّهم رفضوا الانصياع إلى سياسة الحكومة بتشجيع زراعة الفراولة والكانتالوب والفواكه، القابلة للتصدير، التي عدها تزيد من أرباحهم ومن العملة الصعبة للبلاد، وأنّ الدولة ملتزمة بتوفير القمح الرخيص من 21 دولة تعاقدت على الشراء منها.
الهروب من زراعة القمح
دفعت تلك السياسات المزارعين إلى هروبهم من زراعة القمح، إلّا المضطرين، لغسل الأراضي في المناطق الصحراوية أو تلافي مشاكل الدورات الزراعية.
لم تعد زراعة القمح مصدر فخر للفلاحين، الذين كانوا يتغنون به عبر العصور "القمح الليلة.. الليلة عيده.. يارب يبارك.. يبارك ويزيده"، بعد أن أصبحت زراعته عبئا على الناس، ولا يضطر إليه إلا "العويل" أي الكسول، وفقا لرؤية أهل الريف الذين يعلمون أن القمح من أقل الزراعات مشقة، ولا يحتاج من الخبرة والرعاية، ولا يأتي منه ربح إلا القليل. ولم تفلح ثورة 25 يناير التي رفعت شعار "نأكل مما نزرع ونحارب بما نصنع" بعدما أخفقت في الاستمرار.
عادة لا يدخل الفلاح المصري في صدام مع السلطة، ولكنه يجيد كيفية المناورة في صمت، على حقوقه المسلوبة، ويعلم أنّ وقت الحساب على ما خسره من قبل، قد حان، وأنّ الزمن في صالحه، مع ما يسمعه من تحذيرات أطلقها البنك الدولي وصندوق النقد، من احتمال حدوث مجاعات واضطرابات، في دول كثيرة من بينها مصر، لعدم قدرتها على توفير القمح واستيراده والغذاء من الخارج بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا، وارتفاع الأسعار عالمياً، وانخفاض الاحتياطي النقدي للبلاد من العملة الصعبة.
أصبح القمح سلاحاً استراتيجياً في يد الدول المنتجة، لتحقيق أهداف سياسية، كما سمعها الفلاح من تقارير منظمة التجارة الدولية، ويواجه مشاكل في الدول التي تكفلت بتصديره إلى مصر بأرخص الأسعار من قبل، خصوصاً روسيا وأوكرانيا ورمانيا التي ورّدت لمصر نحو 82% من احتياجاتها طوال 7 سنين، فلمَ لا يكون أداة في يده للضغط على الحكومة، لتحقيق أهدافه المالية المسلوبة؟
الحكومة تتعجل الحصاد
تعجلت الحكومة الحصاد، وتسعى إلى جمع ما بين 5.5 و6 ملايين طن قمح، خلال الموسم الحالي. أصدرت قراراً بمنع من يزرع 25 فداناً فأكثر، من التصرف في الإنتاج، وتوريد 90% من الحصاد على الأقل للصوامع الحكومية، عبر 400 محطة تسليم بالمحافظات.
وعدت الحكومة بدفع مستحقات البيع خلال 48 ساعة من التوريد، وقد كانت تتأخر على السداد، لعدة شهور. بعد تهديد المخالفين، أغرت الملتزمين، بأنها ستوفر لهم الأسمدة للزراعات الصيفية، بسعر مدعم يقل 50%، عن أسعار السوق، وهي التي رفعت تلك الأسعار، في بداية زراعة القمح للموسم الحالي، بنحو 50%، واكتفت بتوريد 50% من الكميات المقررة للفدان، بواقع 3 شكائر وزن 50 كيلوغراماً، لمن سيورد القمح للحكومة.
شروط التوريد منعت ملايين من المزارعين من الحصول على الدعم، حيث أغلب الزراعات في الوادي، صغيرة المساحة بأقل من 3 فدادين للأسرة، ويتنازع الملاك والمستأجرون على الدعم الذي يصرف على الحيازات، ويكتفي صغار الملاك، بزراعة القمح لحاجاتهم الشخصية، أو البيع للتجار، الذين يتولون تمويل شراء المزارعين للتقاوي والمبيدات، على مدار الموسم، مقابل التزامهم بتسليم المحصول عند الحصاد.
مافيا التوريد
يقدم التجار القمح للمطاحن التابعة للقطاع الخاص أو يجري تجميعه في كميات كبيرة وإعادة تسليمه للحكومة بمعرفتهم، التي فضلت التعامل مع كبار الموردين، وتمنحهم مميزات في السعر لا يحصل عليها المزارع الفقير، بما شجع على وجود "مافيا" توريد القمح للحكومة، بما فيها من صفات فاسدة، وفساد مالي نوقش على مدار العقد الماضي في البرلمان.
يراهن وزير الزراعة، سيد القصير، على أن يحصد المزارعون، 10.8 ملايين طن، في الموسم الحالي بزيادة 8.9% عن العام الماضي.
وتأمل الحكومة أن يلتزم المزارعون بتسليم ما لا يقل عن 5.5 ملايين طن، للصوامع، خلال شهري مايو/ أيار ويونيو/ حزيران، وكنوع من الحذر، منحت الموردين فرصة، لأول مرة بأن مدت فترة التسليم، حتى نهاية أغسطس/آب المقبل. يقف الفلاحون بمفرق طرق، وهم على أعتاب فترة ذروة الحصاد، التي ستبدأ في اليوم الثالث لعيد الفطر.
سيسرع الجميع، لبدء الحصاد بآلات عتيقة، معتمدين على العمالة اليدوية، مرتفعة التكلفة، وثلة من الشركات أو الأفراد هم فقط من كبار الملاك القادرين على تدبير وسائل حصاد آلية، أكثر حداثة. يذهب 30% من الإنتاج عادة هدرا، أثناء الحصاد والنقل والتخزين في المجمعات، وفقا لدراسات بحثية.
يدفع المزارعون أجور المعدات والعمال نقدا، فيضطرون إلى الاقتراض من تجار الجملة أو ذويهم لحين بيع المحصول، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة وارتفاع هائل في تكاليف المعيشة، سيظل عنصر التكلفة والقدرة على الصمود أو الاقتراض، العامل الحاسم لدى الفلاحين، إما تدفعهم إلى البيع العاجل للحكومة، وفقا لشروطها والسعر المعلن، أو الانتظار، لحين مرور التجار عليهم وأخذ المنتج منهم بسعر أعلى. واعتاد المزارعون البيع للتجار، منذ تخلت الحكومة عن نظام الدورة الزراعية، وفرضت أسعارا أقل من قيمة التكلفة الفعلية، وتفضيلها القمح الأجنبي رخيص الثمن.
حرب خفية
عاجلت الحكومة تجار القمح، بفرض عدم تصرفهم في الحصاد، قبل استكمال الحصص المطلوبة لصوامع الدولة، وتهديد المحافظين خروجها من حدودهم، بما يعني وضعهم تحت الحصار والتسليم الجبري لما يجمعونه، وفق الأسعار الرسمية. تشهد الأسواق حربا خفية بين ثلاثة أطراف: مزارع يسعى للحصول على حقه المسلوب منذ سنوات، وتاجر، يرغب في تحقيق أرباح من البيع للصوامع الخاصة التي كثرت في البلاد وأصبحت تستورد بمفردها 60% من واردات القمح الخارجية، وتبيع الدقيق ومكونات المعجنات للمصانع والأفران الخاصة بأسعار السوق.
يقدم التجار القمح للمطاحن التابعة للقطاع الخاص أو يجري تجميعه في كميات كبيرة وإعادة تسليمه للحكومة بمعرفتهم، التي فضلت التعامل مع كبار الموردين، وتمنحهم مميزات في السعر
يظل الطرف الثالث ممثلاً في الحكومة موجوداً، كما حدث في أزمة الأرز منذ 4 أعوام، حينما استخدمت القوات الأمنية في ملاحقة الرافضين لتسليم المحصول قسرا لوزارة التموين، بعدما امتنع المزارعون عن توريده للدولة بسعر متدن وهي التي رفعت سعر توريد القطن، إلى 6000 جنيه للقنطار لترضي الفلاحين الذين امتنعوا عن زراعته، عدة سنوات، لانخفاض السعر عن التكلفة.
يعلم التجار عدم قدرتهم على توفير السيولة من البنوك المحلية، لدفع قيمة الشراء، وقدرة الحكومة على منع البنوك من منح تسهيلات لهم كمنافسين لها، في حالة تذمرهم أو حجب الدولار عنهم في حالة رغبتهم في الشراء من الخارج، خاصة مع الانخفاض الشديد في الاحتياطي النقدي، وصعوبة تدبيره من البنوك للمستوردين.
سيظل انكشاف واردات القمح للحكومة مستمرا، مع غضب الفلاحين، على سعر التوريد ومحدودية موارد الري والأراضي القابلة للزراعة، ونقص العملة الصعبة للشراء من الخارج. يتوقع أن تسبب الحرب في أوكرانيا "موجات زلزالية" على الاقتصاد العالمي والمصري بخاصة ستستمر لسنوات، وفقا لتصريحات رئيس صندوق النقد كريستالينا جورجينا، عقب اجتماعات الربيع، نهاية الأسبوع الماضي.
وحسب مراقبين، تعلم الحكومة أنّ رسائل الطمأنة، التي ترسلها للناس لن تكون مقنعة، إذا اصطدمت بالفلاحين وإذا ما رفعت سعر رغيف الخبز، كما هو مقرر له من قبل، لأنّها في حاجة إلى الاستقرار، وأن يجد الناس أغذيتهم بالأسواق.