يفاقم الجفاف الذي يعصف بالمحاصيل الزراعية في العديد من الدول الأوروبية، الخوف الذي يسيطر على الكثيرين في القارة العجوز ليس فقط من مواصلة الأسعار الارتفاع وإنما من الجوع أيضا، ما يزيد من الأضرار الناجمة بالأساس عن الحرب الروسية في أوكرانيا وانعكاس العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو.
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي وحتى السادس من مايو/أيار الحالي سجل منحنى الأسعار العالمية زيادة بأكثر من 12% في المتوسط.
وتنضم تلك الزيادة إلى ما أنتجته جائحة كورونا خلال عام 2021 من زيادة في الأسعار لتصل في المجمل إلى أكثر من 28%، بحسب تقارير منظمة الزراعة والغذاء العالمية التابعة للأمم المتحدة "الفاو"، فيما تبدو توقعات المحللين للفترة المقبلة أكثر تشاؤماً، خاصة في ظل تداعيات الجفاف الذي يهدد بجانب تداعيات الحرب بتجويع عشرات ملايين الأشخاص.
عمليا بات الأوروبيون يواجهون أزمة ارتفاع تكلفة الحياة اليومية منذ ما قبل الحرب الأوكرانية، وساهمت كورونا في ذلك، قبل أن يعتقد الأوروبيون أنهم بصدد التغلب عليها لتفاجئهم الحرب وتضعهم في مأزق لم يعيشوه منذ عقود.
إذا كنت تعيش في الدنمارك فستلاحظ أنك حتى إذا ارتدت متاجر التنزيلات، مثل سلسلة سوبرماركت "نيتو"، فستفاجأ بأن أسعار الزيوت بشتى أنواعها، قد ارتفع بأكثر من 62%. بل ومنذ بداية مايو/أيار الجاري، حددت المتاجر الحصول على 3 زجاجات زيت فقط لكل زبون.
ووفقا لأرقام هيئة الإحصاء الدنماركية (جهة رسمية) فإن إبريل/نيسان الماضي شهد زيادة أسعار معظم المواد الغذائية، كالخبز ومنتجات المعكرونة ولحوم العجل والحليب والأجبان بنسب تتراوح بين 8% و25%. الدنمارك ليست سوى مثل على حجم ارتفاع الأسعار الأوروبية، مع زيادة أسعار الوقود والأسمدة منذ فبراير/شباط الماضي.
ويحيل أندرس مورتنسن، محلل الاقتصاد والمواد الخام في مؤسسة "أغروكورا" الدنماركية، اضطراب أسواق السلع في جزء منها إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنه يؤكد أن "الاضطراب يزداد أيضا مع حالة الجفاف في أوروبا، بما سيكون له آثار تصاعدية خطيرة"، وفقا لما نقلت عنه صحيفة "بورسن" المتخصصة في الشؤون المالية والاقتصادية.
أرقام هيئة الإحصاء الدنماركية الصادرة الأربعاء الماضي، ترسم كذلك صورة قاتمة عن تطور أسعار المواد الأساسية، وذلك في سياق أوروبي عام يعاني من زيادة منسوب التضخم، وتراجع القوة الشرائية لدى مواطني القارة.
في كوبنهاغن يؤكد المتخصصون في تتبع منحنى السوق في هيئة الإحصاء أن "الأوضاع الحالية لم تشهد مثلها البلاد خلال العقود الأربع الماضية". وعلى سبيل المثال وصل مستوى التضخم في الدنمارك إلى مستوى قياسي بنحو 6% منذ مارس/آذار الماضي، وهو ارتفاع متزامن في 27 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، حيث ارتفع في المتوسط (باستثناء بريطانيا)، من 6.2% إلى 7.8%، وفي منطقة اليورو التي تتألف من 19 دولة منضوية في الاتحاد الأوروبي زاد من نحو 6% إلى 7.4%.
ويُظهر المؤشر الأوروبي لأسعار المستهلك أن أسعار المواد الغذائية سجلت زيادات لم تشهدها القارة منذ ما يعرف باسم "أزمة النفط"، التي اندلعت بعد توقف الدول العربية عن ضخ النفط خلال الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلي عام 1973، وبعضها لم تشهد مثل هذا التضخم منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، مثل سويسرا وأيسلندا.
ويبدو النموذج الدنماركي مجرد نموذج لحالة أوروبية عامة في تحليق تكلفة الحياة عالياً. ويسري الأمر نفسه في العواصم الأوروبية الأخرى، تحت وطأة ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى 10.3% في المتوسط. ومقارنة بما كان عليه الوضع في أوج أزمة كورونا العام الماضي فإن المجتمعات تواجه ارتفاعات قياسية في تكاليف الحياة بالنسبة للأسر، ويسري ذلك على زيادة أسعار الكهرباء والغذاء والتبغ والوقود والغاز، بل حتى أسعار قضاء العطلات الداخلية.
ويرسم المحللون صورة قاتمة للوضع على المديين القريب والمتوسط، إذ تسود توقعات بأن الأسعار ستحلق أكثر مع استمرار انحسار المطر وانتشار الجفاف في القارة. وربط أولي سلوث هانسن محلل سوق السلع في "بنك ساكسو" في كوبنهاغن، بين تراجع غلال المحاصيل الزراعية وتفاقم الأسعار، متوقعا تافقمها أوروبياً مع الانعكاس السلبي للحرب على مجمل الوضع الاقتصادي.
ونقلت جريدة "بورسن" الاقتصادية في كوبنهاغن تشاؤم هانسن، وغيره من الخبراء الذين طرحوا تخوفاتهم، من أن يصبح اقتصاد الحرب متأثراً سلبياً بعوامل أخرى، كالتغيرات المناخية التي بات يلمسها مواطنو القارة. فاعتماد بعض المجتمعات على الزراعة في تأمين أمنها الغذائي، كمجتمعات إسكندنافيا، تعيش قلقاً من "تأثير الدومينو" على تكلفة الحياة ومستقبل دولة الرفاهية. فإرهاق زيادة أسعار الديزل، مثلا، لا يرتبط فقط بتعبئة خزانات السيارات، بل أيضا بعمل الجرارات والآلات الزراعية وبأسعار الأسمدة.
ويطرح الخبير الاقتصادي كريستيان سوندبوك، نظرة سلبية إلى ما تواجهه بلده الدنمارك وأوروبا "فارتفاع تكاليف القطاع الفلاحي على المزارعين سيؤدي إلى إنتاج أقل، هذا إلى جانب أن الجفاف استمر طيلة الأشهر الماضية"، بحسب ما ذكر لـ"العربي الجديد".
ويشدد سوندبوك على أن "الأسابيع القادمة ستكون حاسمة للموسم الزراعي، فاستمرار تراجع الأمطار يعني زيادة أسعار المواد الغذائية". الأمر نفسه ينطبق على بلدان أوروبية تعاني منذ الربع الأول للعام الحالي من تناقص هطول أمطار.
ووفقا لخبير الاقتصاد الزراعي الفنلندي إسكولند أندرسن في حديث لـ"العربي الجديد" فإن "عامل تغير المناخ حرم دولا كثيرة من حتى معدل 70 ملم من الأمطار، وبالتالي ستعاني مجتمعات أوروبية من تراجع المحاصيل، وهذا في وقت جد حساس مع توقف صادرات القمح الروسية والأوكرانية، وانكماش واضح في إنتاج الزيوت".
ويشير سنودبوك إلى أن أزمة المناخ العالمي تعد مؤشراً سلبياً على مستقبل الأمن الغذائي، لافتا إلى ما شهدته الهند أخيراً من جفاف وارتفاع درجات الحرارة بشكل قياسي وكذلك أميركا الشمالية، ما يساهم بشكل متزايد في أزمة عالمية.
مخاوف الخبراء من تأثير التغيرات المناخية تعززها تقارير خبراء الأرصاد الجوية في أوروبا، حيث تبين أن أراضي جنوب القارة الأوروبية مقدمة في الأيام القادمة على موسم جاف، ما يؤثر سلباً على المحاصيل.
مشكلة انتشار الجفاف في أوروبا نوه إليها "مرصد الجفاف الأوروبي" في نهاية إبريل/نيسان الماضي، معتبرا أن "الجفاف الشديد أثر على مناطق أوروبية كبيرة، لاسيما نهر بو (أطول نهر في إيطاليا) ونهر الدانوب (ثاني أطول نهر في أوروبا)". ووفق المرصد فإن الجفاف يتفاقم مع نقص الأمطار في مناطق جبال الألب الجنوبية، والمستمرة منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، مع ملاحظة انحسار المطر عن مناطق شرق أوروبا طيلة الربع الأول للعام الحالي. ورأى أن ذلك الانحسار يؤثر على المياه الجوفية في مناطق تشتد فيه الحاجة إلى الري الذي فات أوانه في كثير من الدول.
تراجع هطول الأمطار يتوقع أن يفاقم أزمة محاصيل الحبوب حتى في فرنسا، التي تعد أكبر منتج للحبوب في الاتحاد الأوروبي. وبات خبراء البيئة والمناخ يرصدون المزيد من جفاف التربة وتشققها في دول جنوبي القارة الأوروبية.
وأكدت كريستين لامبرت، رئيسة الرابطة الفرنسية للمنظمات الزراعية المحلية والإقليمية "فنسي" في تصريحات صحافية مؤخرا أن "تشقق التربة نتيجة الجفاف إن استمر على هذا النحو يعني انخفاضاً كبيراً في المحصول لهذا العام".
واعتبرت لامبرت أن الجفاف في أوروبا تترتب عليه عواقب وخيمة على الإنتاج الغذائي "في الوقت الذي تتكشف فيه أصلا أزمة غذاء كبرى بسبب الحرب في أوكرانيا". وتخشى دول مثل إسبانيا وإيطاليا من أن يكون لنقص الأمطار والأراضي الزراعية الجافة تأثير على محصول هذا العام من المحاصيل المختلفة. وتعتبر أوكرانيا سلة الخبز الأوروبي، حيث تضم أكثر المناطق الزراعية خصوبة.