- تعليق مشروع الغاز الروسي في القطب الشمالي يُظهر فعالية الضغوط الأمريكية، مع توسيع نطاق العقوبات لتشمل مشاريع طاقة رئيسية أخرى، مما يؤثر على قدرة روسيا على تأمين نصر عسكري وتقليص مواردها المالية.
- الاستراتيجية الأمريكية تهدف لتقليص حصة روسيا من الغاز الطبيعي عالميًا، تأثير على الاقتصاد الصيني، والحفاظ على الهيمنة في سوق الغاز الطبيعي المسال العالمي، مع توقعات بانخفاض إيرادات روسيا من مبيعات الغاز بحلول 2030.
تصوب الولايات المتحدة بشكل دقيق على قطاع الغاز الروسي المُسال، ربما بشكل أكبر من استهدافها قطاع النفط، والذي بدا واضحاً في تعثر خطة روسية طموحة لزيادة صادرات الوقود الأزرق عبر التوسع في إنتاجه، إذ تبدو واشنطن حريصة على المضي قدماً في أهدافها لأربعة أسباب رئيسية.
معاقبة روسيا على استمرار حربها في أوكرانيا عبر تجفيف منبع رئيسي للموارد المالية، تأتي حتماً ضمن الأسباب الأربعة التي تجعل أميركا لا تتوقف أبدأ عن خنق قطاع الغاز الروسي ولكن هناك أهداف أخرى أبعد من ذلك، فأميركا تريد تقويض الإمدادات الروسية إلى الصين والتالي رفع كلف الطاقة لديها ما يؤثر على اقتصادها وتنافسية سلعها بشكل غير مباشر، فضلا عن رغبتها في الحفاظ على تبعية أوروبا في الإمدادات إلى الغاز المسال الأميركي، الذي استحوذ على مساحة كبيرة من السوق بعد الحرب الروسية في أوكرانيا وفرض عقوبات على موسكو منذ 2022، والهدف الرابع هو إضعاف قوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويعد تعليق مشروع الغاز الروسي الرائد في القطب الشمالي أخيراً من قبل المشغل الرئيسي "نوفاتك" أحدث إنجازات واشنطن في خنق القطاع، ولكن من غير المرجح أن يكون الأخير، وفق تصريحات المسؤولين الأميركيين.
فقد قال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون موارد الطاقة جيفري بيات في الرابع والعشرين من إبريل/نيسان: "لقد اضطرت شركة نوفاتيك مؤخراً إلى تعليق الإنتاج في منشأة تسييل الغاز الروسي المسال 2 في القطب الشمالي، ويرجع ذلك جزئياً إلى العقوبات التي قادتها إدارة الرئيس جو بايدن".
وأضاف بايت: "سنواصل تشديد الخناق.. سنستمر في استهداف مجموعة واسعة من الكيانات المشاركة في تطوير مشاريع الطاقة الرئيسية الأخرى، ومشاريع الطاقة المستقبلية أيضاً والبنية التحتية المرتبطة بها". وجاء قرار تعليق الإنتاج في المشروع بسبب العقوبات ونقص الناقلات، مما يعطل عملية التوريد إلى أسواق الغاز الطبيعي المسال الآسيوية من خلال الطريق البحري الشمالي، والتي لا يمكن تأمينها إلا عبر ناقلات مخصصة للظروف الجليدية.
كما تعد محطة "أوست لوغا" للغاز الطبيعي المسال (على بحر البلطيق قرب سانت بطرسبرغ)، ومشروع الغاز في "ياقوتيا" ضمن أهداف الولايات المتحدة أيضاً لخنق الغاز الروسي المسال. وقال سايمون واتكينز محلل الطاقة في تحليل أوردته نشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة إن الولايات المتحدة لن تتوقف أبداً عن استهداف قطاع الغاز الطبيعي المسال في روسيا لأربعة أسباب رئيسية.
ضرب الغاز الروسي
السبب الأول هو أن الغاز المسال أصبح المصدر الأكثر أهمية للطاقة في عالم غير آمن على نحو متزايد، على عكس النفط أو الغاز الطبيعي الذي يتم نقله عبر خطوط الأنابيب. فالغاز المُسال لا يتطلب سنوات ونفقات ضخمة لإنشاء بنية تحتية معقدة قبل أن يصبح جاهزاً للنقل إلى أي مكان. وبمجرد تحويل الغاز الطبيعي إلى غاز مسال، يمكن شحنه ونقله إلى أي مكان في غضون أيام وشراؤه بشكل موثوق إما من خلال عقود قصيرة أو طويلة الأجل أو على الفور في السوق الفورية.
وتعمل روسيا على زيادة إمدادات الغاز الطبيعي المسال المنقول بحراً للتعويض عن انخفاض صادرات الغاز عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا التي خفضت بشكل حاد اعتمادها على موسكو في مجال الطاقة بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا قبل عامين.
ووفق بيانات شركة "كيبلر" المتخصصة في تتبع شحنات النفط والغاز زادت صادرات الغاز الروسي الطبيعي المسال بنسبة 4.3% في الربع الأول من العام الجاري إلى 8.7 ملايين طن مقارنة بالفترة ذاتها من 2023.
وجاءت الزيادة في الصادرات وفق ما نقلت صحيفة "كوميرسانت" الروسية أخيراً، وسط تزايد الإمدادات إلى الاتحاد الأوروبي بواقع 4% إلى ما يقرب من خمسة ملايين طن وتراجعها لآسيا بنسبة 7% إلى 3.16 ملايين طن. وشركتا "يامال" للغاز الطبيعي المسال التابعة لـ"نوفاتك" الروسية و"سخالين" للطاقة التي تسيطر عليها غازبروم هما أكبر موردين للغاز الطبيعي المسال الروسي.
وتدفع هذه البيانات الولايات المتحدة إلى تشديد الخناق على مشروعات الغاز المسال الروسية في الفترة المقبلة كسبب ثانٍ من عقوباتها ضد هذه القطاع، فصادرات الطاقة تظل تشكل حجر الأساس لاقتصاد روسيا النفطي في الأساس، وأنها كانت عازمة على موازنة انخفاض الدخل من النفط والغاز عبر خطوط الأنابيب مع ارتفاع إمدادات الغاز الطبيعي المسال.
وكان نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك قال في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إن روسيا تعتزم رفع حصتها في سوق الغاز الطبيعي المسال إلى 20% (ما لا يقل عن 100 مليون طن سنوياً) بحلول عام 2030، من 8% (حوالي 33 طناً في 2023).
ووفق المحلل في قطاع الطاقة سايمون واتكينز، كسبت روسيا ما يقرب من 100 مليار دولار من صادرات النفط والغاز خلال الأيام المائة الأولى من الحرب في أوكرانيا. وبشكل عام، كانت الإيرادات من ارتفاع أسعار النفط والغاز بعد الغزو أكبر بكثير من تكلفة استمرار روسيا في خوض الحرب. ومع ذلك، مع بدء الأسعار في التراجع مرة أخرى وتزايد العقوبات على روسيا، تقلصت مواردها المالية وقدرتها على تأمين نصر عسكري صريح بشكل كبير.
وستشكل خسائر الغاز الطبيعي المسال الروسية نتيجة للعقوبات مكسباً للولايات المتحدة تحديداً، ما يعد سبباً ثالثاً من وراء ضرب مشاريع الغاز المسال الروسية في مقتل. وقد قفزت صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية من الصفر قبل عام 2016 إلى حوالي 124 مليار متر مكعب هذا العام، يذهب معظمها إلى أوروبا.
تقليص حصة روسيا من الغاز الطبيعي عالمياً
وبحسب وكالة الطاقة الدولية، فإن حصة روسيا من الغاز الطبيعي على المستوى الدولي من المتوقع أن تنخفض من حوالي 30% في العام الذي سبق غزو أوكرانيا إلى حوالي 15% بحلول عام 2030. ومن المتوقع أن تنخفض إيراداتها من مبيعات الغاز الطبيعي من حوالي 100 مليار دولار في عام 2021 إلى أقل من 40 مليار دولار بحلول عام 2030.
ورغم أن أوروبا تبدو خاسرة في معادلة الاستهداف الأميركي للغاز الروسي، حيث ترتفع كلف استيرادها للطاقة بينما تعاني موازنتها من ضغوط مالية كبيرة، إلا أنها تواصل الانجرار إلى فرض المزيد من العقوبات على الطاقة الروسية، رغم تحوف الأسواق من ذلك.
وتبحث المفوضية الأوروبية هذا الشهر، فرض عقوبات على الغاز الطبيعي المسال الروسي، وفقاً لما ذكرت نشرة "إنرجي إنتلجنس" الأميركية نهاية إبريل/ نيسان. وبحسب صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، فإن الإجراءات الجديدة قد تشمل قيوداً على ثلاثة مشاريع للغاز الطبيعي المسال الروسي، وعلى إعادة تصديره من موانئ الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن، فرضت بروكسل حظراً شاملاً على صادرات الفحم الروسي والنفط الخام المنقول بحراً إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها لم تتوصل إلى توافق بشأن قيود الغاز الطبيعي المسال الروسي وسط معارضة دول مثل المجر، التي لا تزال تعتمد كثيراً على توريد الغاز الطبيعي من موسكو.
وكان الاتحاد الأوروبي قد خفض اعتماده على روسيا في واردات الغاز بنحو الثلثين منذ بداية غزو أوكرانيا، وذلك من خلال مزيج من الانقطاع المفاجئ عن موسكو وزيادة واردات الغاز من النرويج والولايات المتحدة. وشكل الغاز الطبيعي المسال الروسي نسبة 5% فقط من استهلاك الطاقة في الاتحاد الأوروبي العام الماضي، ويدفع الاتحاد الأوروبي ما يقدر بنحو ثمانية مليارات يورو (8.56 مليارات دولار) لروسيا مقابل صادراته التي لا تزال تتواصل بصورة رئيسية إلى موانئ فرنسا وإسبانيا وبلجيكا.
والسبب الثالث وراء تصميم واشنطن على تدمير قطاع الغاز الطبيعي المسال الروسي بشكل فعال على المدى الطويل، وفق تحليل سايمون واتكينز في نشرة "أويل برايس" هو أن هذه الصناعة مرتبطة بشكل وثيق في روسيا بالرئيس فلاديمير بوتين شخصيا، فقد نظر منذ فترة طويلة إلى الغاز الطبيعي المسال وخاصة من موارد الغاز الضخمة في القطب الشمالي باعتباره المفتاح للمرحلة الرئيسية التالية لنمو الطاقة في روسيا.
رفع كلف الصين لكبح جماح سلعها
ويبدو أن واشنطن توجه سهامها نحو الاقتصاد الصيني بشكل غير مباشر عبر تقويض صادرات الغاز المسال الروسية إلى الصين التي تكافح أميركا لكبح جماح سلعها الرخيصة التي تغرق الأسواق العالمية، إذ تهدف إلى جعل استيراد الصين الغاز المسال أكثر كلفة مع تراجع الإمدادات الروسية كهدف رابع من وراء العقوبات ضد مشاريع الغاز المسال الروسية.
وتتشابك الخيوط من وراء هذه الأهداف، إذ أشار تحليل نُشر في مجلة فورين بوليسي الأميركية نهاية إبريل/ نيسان إلى استعداد الولايات المتحدة لفصل جديد في الحرب التجارية مع الصين، ولكن من فوق منصات الطاقة، حيث تجري ترتيبات تهدف إلى حظر صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية إليها، بهدف جعل منتجاتها أكثر كلفة، بما يحد كثيراً من تنافسية سلعها عالمياً، حيث تتهم واشنطن بكين بإغراق أسواقها بالسلع.
فقد نشرت وزارة الطاقة الأميركية في 23 فبراير/شباط، إشعاراً يرمي إلى "عدم بيع موارد الطاقة لدينا (الأميركية) إلى دول منافسة لا تتوافق مع مصالحنا ومصالح حلفائنا".
والدولة الوحيدة المحتملة التي يمكن أن تشتري الغاز الطبيعي المسال والتي ينطبق عليها هذا الوصف هي الصين، وفق التحليل الذي شارك فيه غابرييل كولينز، زميل مركز دراسات الطاقة في معهد بيكر للسياسة العامة في جامعة رايس الأميركية ومعهد أكسفورد لدراسات الطاقة، وستيفن آر مايلز، زميل أبحاث في الغاز الطبيعي والطاقة العالمية في معهد بيكر للسياسة العامة.
وتطرق التحليل إلى السبب وراء تفكير الولايات المتحدة في تقييد مبيعات الغاز الطبيعي المسال للصين، لافتا إلى أنه رغم أن الصين استحوذت على أقل من 4% من إجمالي صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية خلال العام الماضي 2023، إلا أنها الآن أكبر وجهة لاستيراد هذه السلعة من الولايات المتحدة بموجب العقود طويلة الأجل، حيث يمثل المشترون الصينيون ما يقرب من 25% من الصادرات طويلة الأجل.
وتخشى واشنطن تراكم إمدادات الطاقة لدى الصين في وقت تعاني السوق الأميركية والأوروبية تحديداً من مواجهة الصناعات الصينية.