- الإهمال الحكومي في صيانة أنظمة المياه والبنية التحتية، بالإضافة إلى أزمة الكهرباء، يفاقم من مشكلة نقص المياه، مع انتقادات للحكومة الانتقالية بسبب عدم تقديم حلول فعالة.
- هناك محاولات للتحول إلى مصادر طاقة بديلة والتعاون مع شركاء دوليين لمعالجة أزمة المياه، مع تأملات في تحسين الوضع قبل تجدد التوترات.
كان لأزمة العطش والجفاف وضياع المحاصيل الزراعية التي عانى منها شمال مالي عام 2012 تأثير كبير على استقرار البلاد، بعد أن تسببت ضمن عوامل أخرى في نشوب حرب كادت تقسّم البلاد، وانتهت بالتدخل العسكري الفرنسي وانتشار الإرهاب والعنف على مدى سنوات ولازالت البلاد تعاني من تبعاته.
واليوم يواجه الشمال أزمة جفاف حادة عجزت السلطات عن التخفيف من حدتها بعد أن استأثرت التوترات السياسية والعسكرية باهتمامها، فمنذ انقلابي عامي 2020 و2021 ووصول العسكر إلى السلطة تراجع الاهتمام بما يعاني سكان الشمال، كما توقفت غالبية برنامج الإغاثة الدولية التي كانت توزع الأعلاف والمساعدات الغذائية وتقيس نسبة عجز الغذاء في هذه المناطق، كما أنه خلال السنوات الثلاث الماضية لم تكن الأمطار على مستوى توقعات وحاجة المزارعين ومربي الماشية الذين يشكلون 80% من سكان الشمال، فبلغ العجز في إنتاج الحبوب وتربية الماشية مستويات قياسية ما تسبب في تضاعف أسعار المواد الغذائية ثلاث مرات.
وأمام هذا الوضع يخشى المراقبون أن يؤدي نقص المياه إلى توترات جديدة في شمال مالي تزيد من حدة الأزمة السياسية والعسكرية في البلاد، فهل يتكرر سيناريو عام 2012 وتغرق مالي مجدداً في الفوضى بسبب نقص المياه؟
في أرياف الشمال يعاني السكان من العطش الشديد ما أثر سلباً على حياتهم وأنشطتهم الزراعية، يجتمعون لتدارس ما يمكن فعله لتخفيف الأضرار لأنهم عاجزون عن إيصال مطالبهم للسلطات بعد أن تدهورت العلاقة بين جماعات الطوارق والعسكر بسبب التوترات الأخيرة وارتفاع مطالب استقلال الشمال مرة أخرى.
وفي المناطق الحضرية والمدن يتظاهر الأطفال والنساء بحمل أوان وعبوات مياه فارغة على رؤوسهم للتعبير عن حنقهم ونفاد الصبر من نقص المياه، ويتحملون مسؤولية التعبير عن هذه المطالب أمام خوف الرجال والشباب من التظاهر في شوارع تحكمها السلطات العسكرية بقبضة من حديد منذ الانقلاب العسكري عام 2021.
ويرى الخبراء أن نقص المياه في شمال مالي يعود بالدرجة الأولى إلى إهمال السلطات لبناء وصيانة أنظمة وشبكات إمدادات المياه وتأهيل البنية التحية وتوفير كهرباء لمحطات ضخ المياه وعدم تشييد السدود في المناطق التي عانت من الفيضانات، ويؤكدون أن نقص المياه في شمال مالي يتسبب في العديد من المشاكل داخل المجتمع المالي.
أزمة الكهرباء تفاقم المشكلة
يقول الباحث الاقتصادي المالي محمد غا عيسى، إن "نقص الكهرباء أثر بشكل كبير على عمل شبكات توزيع المياه في المدن والأرياف، ففي العاصمة باماكو تعاني بعض أحياء من انقطاع التيار الكهربائي يومياً ما يؤثر على امتدادات المياه، وأحيانا يدوم الانقطاع من 5 الى 6 ساعات وأحياناً حتى 10 ساعات".
ويؤكد عيسى لـ"العربي الجديد" أن الوضع لا يقتصر على الشمال بل إن العديد من المناطق تأثرت بأزمة نقص الطاقة التي تعتبر الأخطر في تاريخ البلاد منذ الاستقلال، مضيفا أنه "على الرغم من وعود الحكومة الانتقالية، لا يزال الماليون يعانون من هذا الوضع الفوضوي، ويتزايد حنقهم على السلطات الانتقالية يوما بعد يوم، خاصة انها لا تقدم حلول ملموسة وتكتفي بمحاصرة كل تمرد ضد نقص الماء والكهرباء".
ويقول إن "الحكومة الانتقالية دائما تلقي باللائمة على سنوات الفساد وسوء الإدارة في العهود الماضية، ولا تقدم حلولاً وأكثر ما فعلته أنها بدأت إجراءات قانونية ضد العديد من المسؤولين السابقين في إدارة الكهرباء والمياه".
وكانت الحكومة الانتقالية بقيادة آسيمي غويتا الذي قاد انقلاب مايو/أيار 2021 قد اعتقلت قبل 3 أشهر عشرات من المديرين التنفيذيين وكبار الموظفين السابقين في الشركة العامة للكهرباء واتهمتهم بـ"التزوير والاعتداء على الممتلكات العامة"، كما تم استدعاء وزير الطاقة السابق لامين سيدو تراوري الذي أُجبر على الاستقالة في مايو/أيار 2023 بعد مظاهرات ضد انقطاع التيار الكهربائي وتم التحقيق معه.
ويرى عيسى أنه في ظل الصعوبات الناجمة عن الطلب المتزايد على الكهرباء، تعاني الشركة من اعتمادها المتزايد على الوقود الأحفوري، وبسبب نقص الاستثمار، فإنها تعمل الآن بشكل رئيسي على وحدات حرارية عفا عليها الزمن، إضافة إلى المشاكل الناتجة من ارتفاع أسعار النفط في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين.
ويؤكد أن التقارير تشير إلى أن هناك مخالفات كانت موجودة بالفعل بين عامي 2019 و2022 داخل الشركة المملوكة للدولة بنسبة 100%، حيث تسبب الفساد والاختلاس وانعدام الرقابة وغياب معايير اختيار المديرين، في إغراق الشركة بالديون، التي وصلت حالياً إلى حوالي 600 مليار فرنك أفريقي (حوالي 915 مليون يورو).
ويشير الباحث إلى أنه نظراً للزيادة في تكاليف الإنتاج الحراري، فإن الشركة تبيع حالياً الكهرباء بخسارة حتى لا تؤثر على الأسر، ومع وجود عجز يبلغ في المتوسط 50 فرنكاً أفريقياً لكل كيلوواط مباع، فإنها تجد نفسها في وضع مالي كارثي ولم تعد قادرة على الدفع لمورديها.
الاعتماد على الآبار
إذا كان توفر الماء يتطلب توفر الكهرباء، فإن هناك عوامل أخرى تتحكم بتوفر المياه في مالي كالظروف المناخية الصعبة وآثار الانحباس الحراري وعواقب النزاع المسلح والآثار السلبية للأنشطة البشرية وسوء إدارتها.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن 52% من احتياجات المياه لسكان مالي يتم تلبيتها في كل من المناطق الريفية والحضرية، لكن دراسات مستقلة تؤكد أن غالبية السكان يتدبرون أمورهم بطرق أخرى ولا ينتظرون توفير السلطات للمياه، من خلال حفر الآبار وجلب المياه من البرك، وتؤكد الدراسات أن 70% من السكان يستخدمون مياه الآبار فيما أن 4% منهم يعتمدون على المياه السطحية كمصدر لإمدادات الماء، وأوضحت أن 66% من السكان لا يستخدمون أي وسيلة من وسائل معالجة المياه في المنزل، ما تسبب في ارتفاع نسبة الإصابة بأمراض الإسهال التي تشكل السبب الثالث للاستشارة بعد الملاريا والتهابات الجهاز التنفسي الحادة في مالي.
وكانت مالي قد وضعت استراتيجية لضمان حصول جميع سكانها على المياه والصرف الصحي بحلول عام 2030، لكن على الرغم من الجهود المبذولة، فإن التقدم في إنجاز هذه الخطة لا يزال متواضعاً.
وتأمل السلطات الانتقالية في الخروج من مأزق أزمة نقص المياه قبل أن تتصاعد التوترات أكثر مع سكان الشمال، من خلال التحول إلى الطاقة الهيدروليكية والطاقة الشمسية، التي لا تزال غير مستغلة بالقدر الكافي.
وتقول الحكومة الانتقالية إن هناك مشاريع قيد الدراسة مع شركاء روس لحل أزمة نقص المياه. وكانت مالي قد وقعت مع شركة "روساتوم" الروسية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الطاقة النووية.